24 ديسمبر، 2024 5:42 ص

الحرامية .. إتقان اللعبة في صياغة الخطاب المسرحي

الحرامية .. إتقان اللعبة في صياغة الخطاب المسرحي

تأليف واخراج : رفيق نوري
تمثيل : حمه سعيد ، نوزاد رمضان ، تارا عبد الرحمن ، كوفار أنور ، تحسين اسماعيل ، كمال دانيال
مدير انتاج : هيوا سعاد
تاريخ العرض : 31/10/ 2011
مكان العرض : قاعة الشعب في اربيل
تقديم : منتدى عنكاوا للفنون بالتعاون مع مديرية الفنون المسرحية في اربيل
                                           
المنطق الجدلي
الدراما فن يستند في بنائه على الجدل بين الحاضر والماضي ، بين الواقع المرئي والمحسوس وبين واقع مفترض متخيل ، وفيما لو غاب الجدل عن الرؤية التي تحكم هذه العلاقة غابت الدراما ، فما جدوى ان تقلب صفحات الماضي دون ان تمتلك مجسا ناقدا يدقق من جديد في كنه ومسار الاشياء والاحداث ؟
 من هنا كانت اهمية الاعمال المسرحية لعدد من الكتاب الذين مروا في تاريخ المسرح العالمي ، ذلك لانها لم تخرج في بنائها عن المنطق الجدلي الذي كان يحكم رؤية الكاتب للاحداث والعلاقات الانسانية التي تناولها في نصه ليخرج بافتراضات وتصورات قائمة على توفر المنطق في بنائها .
وهنا ليس  بالضرورة ان يكون مايتوصل اليه الكاتب باعتباره حقائق ثابتة ينبغي تصديقها والقبول بها  باعتبارها استنتاجات لاتقبل الجدل والتقاطع والرفض ، بل يبقى مايتوصل له اي كاتب ماهو الا من باب الفرضيات التي تحتمل اوجها عدة تتراوح مابين الرفض او القبول لكن يبقى المنطق هو اللبنة التي ينبغي توفرها كقاسم مشترك في اية فرضية يتم طرحها من قبل الكاتب .
وفيما لو  ذهب الكاتب الى الاتجاه الاخر باعتبار مايطرحه من افكار ماهو الا حقائق ثابتة فأنه بذلك يكون قدم حكم على عمله بالفشل ، وبالتالي سينعكس ذلك على موقف ورد فعل المتلقىء للعمل الدرامي والذي سيتسم هنا بالرفض وعدم التواصل مع العمل ، ذلك لانه ينطلق من قاعدة خاطئة في تحديد ورؤية العمل الفني عندما يضعه في اطار مقفل على الافكار المطروحة فيه دون ان تكون  عرضة للنقاش والحوار والجدل في ذهن المتلقي . وهذه القاعدة الخاطئة تجعل من النص يسقط في هوة بعيدة تقصيه عن جنسه ومساره الفني المفتوح كما تلصق كمامات على فم المتلقين كي لايدخلوا معه في حوار جدلي،  وهذا هو ماينبغي ان يقوم به العمل الدرامي واي عمل فني .
 فما جدوى ان تقدم عملا فنيا دون ان تفتح الابواب مشرعة لحوار يتقاسمه المؤلف مع الاحداث والشخصيات التي يتناولها من جهة والمتلقين من الجهة الاخرى ولن ينتهي هذا الحوار مع انتهاء العمل الفني بل يبقى قائما حتى بعد الانتهاء من قراءة او مشاهدة العمل لفترات قد تطول او تقصر تبعا لعمق ومستويات الافكار والرؤى المطروحة بين طيات الحوار والصور الفنية التي يحملها العمل الفني .

المخرج المؤلف
مسرحية الحرامية التي كتبها وقدمها (نصا وعرضا مسرحيا ) الفنان رفيق نوري حنّا توفرت فيها جملة من العناصر الفنية  التي اشرنا اليها في المقدمة . فلم يكن نوري وهو يكتب هذا العمل يسعى الى تقديم مجموعة من الشخصيات الانسانية المتواجدة والمقيمة في مستشفى للامراض النفسية والتي تعاني امراضا نفسية مختلفة نأت بها معزولة عن المجتمع لتجتمع في مكان واحد افترضه فنيا  حتى يكون حاضنة مكانية مكثفة يمكن عبرها ومن خلالها بناء نسيج من العلاقات الانسانية فيما بينها لتكون توطئة للوصول الى اعماق تلك الشخصيات وصولا الى رسم دائرة واسعة من الاحداث والدوافع التي جعلت منها بالتالي مهزومة ومأسورة بمشاعر وهواجس وخيالات مريضة غيرواقعية انتهى بها هذا الحال في نهاية المطاف الى ان تكون في مستشفى للامراض النفسية والعقلية .
 ولكي نبقى في اطار المفاهيم الدرامية التي انطلق منها وبنى عليها هذا العمل لابد من الاشارة الى  ما يحسب له لصالح هذه التجربة عندما يكون مؤلف النص الادبي هو مخرج العرض .  نظراً لعمق التجربة المسرحية للفنان نوري التي تمتد لاكثر من ثلاثة عقود توزعت مابين التمثيل والاخراج وتدريس الفن المسرحي في معهد الفنون الجميلة ،  فقد انعكس ذلك بشكل واضح على طبيعة النص المكتوب على الورق الذي اتيحت لي فرصة الاطلاع عليه وقراءته والذي لم يكن سوى بمثابة مسودة اخيرة للخطة الاخراجية التي بني عليها العرض المسرحي .
وينبغي الاشارة هنا الى لغة النص التي كانت مكثفة وموجزة وخالية من الزخرفة اللفظية والبلاغية ــ التي عادة ماينشغل بها كتاب نصوص الادب المسرحي التقليديين ـــ ولتذهب اللغة في فضاء الايماءة والايحاء الذي يمنحها طاقة درامية تأويلية تحث المتلقي على التأمل والتفكير في مايراه ويلتقاه من شظايا الافكار التي تتاجج  وتتطاير نتيجة الصراع المحتدم في ذات الشخصيات ومع ذوات الشخصيات الاخرى .
ايضا ينبغي ان نشير الى ما توفرفي المسودة او المخطوطة الادبية من  نقاط انطلاق فنية كانت بمثابة هيكل فني واضح الملامح  لمعمار ألعرض المسرحي ، وقد خلا  في مجمل عناصره ( الاحداث ، الحوار ، الشخصيات ، فضاء الاحداث ، الافكار ) من اية تفاصيل  فائضة عن الحاجة يمكن التغاضي أوالاستغناء عنها .
وهنا يتضح مدى النضج الدرامي  الذي يمكن ان يتوفر في اي عرض مسرحي عندما يأتي من  مشغل مؤلف درامي له تجربة عملية بكل تفاصيل الشغل المسرحي على عكس النصوص التي يكتبها اولئك الذين يأتون غالبا من حقول الفن القصصي او الروائي او اي فن ابداعي اخر وهم لايملكون  اية تجربة عملية وميدانية مسرحية مما يوسم اعمالهم بطبيعة الحال بالترهل ، والاستطراد ، والحشو ، اضافة الى  احتوائها على تعليمات وملاحظات اخراجية لاقيمة ولاجدوى من الالتزام بها ) ومجمل ذلك لايساهم في بناء وتطوير الحدث الدرامي .
هذا اضافة الى ضعف المعرفة في بناء تفاصيل الفضاء الدرامي الذي تتحرك فيه الشخصيات  في اغلب هذه النصوص ، فأما ان يكون فضاء خياليا غير قابل للتنفيذ على رقعة الخشبة المسرحية لعدم توفر الدراية الواقعية الكافية بما تمتلكه من طاقة وقدرة وامكانات . او يكون فضاء غارقا في طبيعيته مما لايترك اية فسحة للخيال ان يلعب دوره في التجربة الفنية ،وليصبح بالتالي كتلة ثقيلة على الخشبة ، قد تؤدي اي وظيفة ممكنة الا الوظيفة الدرامية التي تغيب عنها  .

 سلطة المخرج
كان عرض الحرامية الذي تصدى لتقديمه مجموعة من الممثلين الكوردالمحترفين عرضا مسرحيا توفرت في منظومته ( البصرية والسمعية)  مجمل العناصر الفنية التي عادة ما  تسود الاعمال الفنية التي تنجح في استقطاب وعي المتلقي ووجدانه وتجعله وهو يتلقى التجربة الجمالية للعرض الفني وهو في حالة من التواصل والتوقد  الذهني والشعوري ، وهذا قصد جوهري لايغيب عن وعي المبدع  مطلقا كلما  اراد ان يكون في المواجهة مع اي مشروع فني جديد لم تتضح ملامحه بعد وكلما تصدى لتقديم عمل فني يعبىء فيه هواجسه وتأملاته وقراءاته الفلسفية والجمالية للقضية التي يسعى  لطرحها باطار رؤيته ومعالجاته الفنية التي تكتسب رشاقتها وتفردها الاسلوبي من خلال عمق التجربة الانسانية له بكل روافدها وهو يحرص كل  الحرص على نشدانها واكتمالها في البناء العام للتجربة الفنية  لكي يصل الخطاب المسرحي الى المتلقي في سياق جمالي وهو يمتلك عنصر المتعة بمعناها المطلق والشمولي( الفكري والعاطفي)  .
“المخرج هو المبدع الكللي للعرض المسرحي وهذا هو دوره الطبيعي الذي لاينافسه فيه احد”  اي بمعنى هو الذي يتحمل المسؤولية الكاملة عن النص والتمثيل وتصميم الاطار المادي للعرض (السينوغرافيا ) والمخرج رفيق نوري مارس دوره السينوغرافي كاملا في هذه التجربة  متلمسا طريقه على خشبة المسرح بالاعتماد عى مجساته الذاتية التي رسختها حرفيته ومهنيته المسرحية التي نطقت بجمله الدرامية  في مفردات لغة العرض البصرية والسمعية بعد ان طوعتها ووظفتها لخدمة الجملة الدرامية وهو يرحلها في البقع الضوئية التي كتبها بالوان محددة مابين الازرق والاحمر والاصفر لتنتشي اللحظة التعبيرية بطاقة من البوح والكشف الاستفزازي الايحائي .
كذلك  انغمر المكان الذي تدور فيه الاحداث ( المستشفى ) بمستويات متدرجة لقطع الديكور التجريدية التي جنحت لان تكون سلالالم غير متناظرة انفتحت في اغترابها التجريدي على واقعية العذابات التي حملتها اليها الشخصيات وحملتها بالتالي مدلولات جديدة وبعيدة عن ايقونيتها وهي تتحرك عليها بتعدد مستوياتها . هذا اضافة الى مفردة الاسرّة المتحركة على عجلات والتي دون عليها المخرج نوري اكثر من جملة درامية باشكال وتوظيفات متنوعة ومختلفة وهو هنا قصد أن ينحت اشكاله من وحي فهمه وتبنيه لمنهج الحداثة ولتحمل الدلالات  لديه بالتالي مدلولات متعددة ومتنوعة اخرى بعيدة عن وظيفتها الاجتماعية المستهلكة والمتداولة.

وفيما يتعلق بالممثلين المحترفين الذين اعتمد عليهم فقد تفادى نوري ان يزج نفسه في اشكالية قد لاتكون لصالحه عندما لم يغامر في الاستغراق باستثمار الطاقة الجسدية بما تمتلكه من كشوفات مشفرة  كما هو الحال في التجارب المسرحية الحديثة . ذلك لانه يدرك بحكم خبرته وفهمه لطبيعة الواقع ماهية القدرات المتاحة امامه والتي تربّت على نمط من الاداء الكلاسيكي يستند بشكل اساس على التعبير الصوتي ولايعير اهمية كبرى للطاقة التشفيرية  التي يملكها الجسد . وذلك للغياب التام في  استثمار( البيو ـ ميكانيك )  الذي كان قد توصل اليه مايرخولد كطريقة في اعداد الفيزيقي / البدني للمثل بهدف الانجاز الخارجي العاجل للمهام التي يكلف بها .وهو نقيض منهج المعايشة الداخلية للمعلم الاول ستانسلافسكي ، لذا حاول نوري  ان يستمثر مايمتلكونه من خزين حرفي ّوخبرة متراكمة في الاداء النمطي  ليوظفه بالاتجاه السليم  الذي يدخل في السياق الفني الذي يسعى لتقديمه . وهذه قضية فنية تواجه المخرج المعاصر في سواء في اقليم كوردستان او في العراق اذ مازالت اساليب اعداد الممثل لجسده ضعيفة جدا ولم  تأخذ اي جزء من اهتمامه ، لذا من الطبيعي ان تتعطل الطاقة التشفيرية لجسد الممثل ويبقى الصوت هو الوسيلة التي يعتمد عليها الممثل دائما  في التجسيد والمحاكاة والتشخيص .  وعليه لابد ان تأسف كثيرا عندما تجد ممثلا شابا يملك موهبة ناضجة وجميلة في التمثيل مثل (     ) ويملك اطلالة قوية جدا على الخشبة بما يتسم به ادائه من استرخاء وعفوية في اداء الفعل ورد الفعل قد يعجز عن الوصول اليه  الكثير من نجوم المسرح العراقي ، وهنا نستذكر مقولة للمعلم ستانسلافسكي ” الشيء الرئيسي في فن الممثل لايكمن في الفعل ذاته بل في نشأة الميل الى الفعل نشأة طبيعية فهذا الميل هو بالضبط نصف الموهبة ” فمثل هذا الممثل بهذا الحضور الاسر تأسف كثيرا له عندما تجده لايهتم ببناء جسده وترشيقه الى الحد الذي يمكنه  الخروج من حالة الترهل التي يعانيها والتي تسبب له البطىء الواضح في الحركة وبالتالي التعطيل التام لطاقة جسده التعبيرية . وهكذا هو الحال مع الممثلين المبدعين  (     ) و(   ) اللذان نجحا في تقديم دوريهما اعتمادا على مايمتلكان خبرة طويلة في المسرح الكوردي .وطالما الحديث هنا عن التمثيل لابد من  لذا ينبغي ان يصار الى اقامة دورات مستمرة لتدريب وتنمية المهارات والفعاليات الجسدية وبتعبير ادق ( مختبرات مسرحية ) ينتظم فيها من يعمل في مهنة التمثيل  حتى ترتقي قدرات الممثلين الى مديات افضل ولكي يستطيع المخرجون ان يستثمروا ويفجروا الطاقات المخزونة في جسد الممثل الكوردي . لان الجسد ماهو الاّ وسيط فاعل بين الانا والاخر .
اخيرا لابد من الاشادة بهذا العمل الذي امسك بخيوط اللعبة المسرحية بمهارة واضحة استثمر فيها المخرج رفيق نوري نزعته الى المزاوجة بين اساليب ومناهج متنوعة توزعت بين ماهو  تعبيري وتجريدي ورمزي . وقدم للمسرح في كوردستان عرضا فنيا ملأ فراغا واضحا بعمل مسرحي يتسم بمتعة الخطاب الفني  في المسرح الكوردي هو بأمس الحاجة اليه حتى يستعيد المسرح جمهوره الواسع الذي افتقده . ذلك لان مصطلح المسرحانية كما يؤكد د. صالح سعد في كتابه (الانا ـ الاخر ازدواجية الفن التمثيلي ) الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية يشير الى “الدور البارز الذي لعبه بقاء العرض المسرحي على خارطة الفنون  والاداب الانسانية كتعبير ضمني عن شوق الانسان الغريزي الى الفرح والاحتفال كمساحة مفتوحة للمشاركة وللابداع الجمعي ”                                           
وختاما تحية لكل الممثلين والعاملين  الذين ساهموا فيه .