23 ديسمبر، 2024 5:56 ص

عندما صدرت رواية (الحرام) للأديب المصري الراحل يوسف ادريس عام ١٩٥٩ وتحولت لاحقاً إلى فيلم سينمائي عام ١٩٦٥، شكلت حالةً خاصة ونوعاً من النقد المباشر والجريء لسلوكيات بعض فئات المجتمع تجاه فئةٍ أخرى ضعيفة ومضطهدة، تكافح لنيل الحد الأدنى من مقومات الحياة وسط متاعب ومشاق العمل المضني، والأجر الزهيد والتنقل المستمر سعياً وراء الرزق مع تحمل التعامل الفظ ورميهم بشتى أنواع النقائص والرذائل التي كانت محور العمل..

ويذكر الجميع وقتها بؤس حياة هؤلاء العمال الذين يعملون بشكل ٍ يومي ليستطيعوا العيش، وكيف خسرت الفلاحة البسيطة (عزيزة) شرفها عندما تم الغدر بها واغتصابها لقاء بضع حبات من (البطاطا) التي حاولت أخذها دون إذن صاحبها لإطعام زوجها المريض والذي ذكرها أمامها على غير عادته كنوعٍ من البوح عن أمنية بعيدة، ونذكر أيضاً كيف كان هم سكان القرية تبرئة نسائهن ونسب اللقيط للعاملين (الأغراب) الذين حملوا معهم هذه (السلوكيات) إلى قريتهم التي لا تعرف الخطيئة..

وفي ذلك الوقت وحتى إلى ما قبل عشرين عاماً إلى الوراء، كانت لكلمة (الحرام) ذات المعنى المتصل بالدين بشكل ٍ رئيسي وقعٌ وتأثير أكبر بكثير مما هي عليه اليوم، فلطالما كانت عبارات من قبيل (الظواهر الدخيلة على مجتمعاتنا) وما شابهها غير مقنعةً بالنسبة لي أو لغيري، والتي تستخدم على الدوام لتبرير سلوكيات مخجلة في محاولة لإظهار أن (كل شيء على ما يرام)، وكأن ما يتكرر حدوثه في حياتنا من ظواهر سلبية هو أمر عابر من أشخاص هبطوا من الفضاء ولا علاقة لنا بهم فيما الواقع هو العكس..

فلا غرباء.. كل ما نراه يومياً من سلوكياتٍ وألفاظ وآراء هي لأشخاص ٍ من بيئتنا يتحدثون لغتنا ويقاسموننا مدننا والهواء الذي نتنسمه، لكن إنكار المشكلة ورميها على الآخر من خلال مصطلحات في ثقافتنا الشعبية مثل (هؤلاء، البعيد، البعدا، التانيين، الخواجات والأجانب) وغيرها كانت تستخدم لإشعار المستمع أن الخطأ أو النقيصة تأتي دائما ً من مكانٍ بعيد عنا لأننا في مجتمعات (تقدس مفهومي العيب والحرام)، ومع ذلك لا زلنا نسمع بشكل ٍ متكرر عن جرائم قتل وسرقة واختلاس واغتصاب للنساء والأطفال تحت ذرائع مقززة أكثر من الفعل نفسه، وزادت معدلات التحرش الجنسي وسفاح القربى والأطفال مجهولي النسب..

ولا يزال هناك من هم بلا مأوى ولا طعام، ولا زال هناك من ينافقون ويداهنون ويرتشون بأشكال مختلفة ومتطورة للرشوة، ويستخدمون العبارات الرنانة والكلمات البراقة ويجدون الأسباب لتبرير أفعال الفاسدين لأنهم لا يقلون عنهم في الفساد حمايةً لمصالحهم فيما يعتبرون ذلك ميزةً أو موهبة، والذي يغطيه بعضهم بإستخدامه لنصوصٍ دينية ليكون فوق مستوى الشبهات..

اليوم وبعد أكثر من نصف قرن على صدور هذا العمل سواءاً كان روايةً أو فيلماً سينمائياً، نجد أن المفاهيم لا زالت نفسها ولكن مع تغير المشهد بسبب تغير المجتمع والزمن وانفتاحه على العالم في كل بلادنا، فأصبحت الرؤية واضحة بشكل ٍ لا يخالطه شك أننا اعتدنا دوماً أن نتحامل على الضعيف ونحمله وزرنا وخطايانا أو أن نصمت على ظلم القوي له، وفي حال قام الفقير بنفس خطأ الغني سيتم الإستنفار لتطهير المجتمع من خطيئة الفقير (حفاظا ً على المبادىء) فيما سنصلي وندعو للغني بالهداية والعودة إلى الطريق القويم، مما يؤكد أن مفهوم (الحرام) والذي اعتدنا على وضوحه آخذٌ في الغياب وسط ضبابية المعايير وازدواجيتها يوماً بعد يوم، حيث لا يزال هناك من يدفع ثمن ذنبٍ لم يرتكبه، وهناك من يكرم على إنجاز ٍ لم يقم به، ولا زال الخطأ بعيداً وسيظل بعيداً في مكانٍ ما لا يعرف الطريق إلينا لأننا لا نخطىء..فالخطأ من شيم (الآخرين) وليس من شيمنا..