تصاعدت مؤخراً ظاهرة الإنتحار بين الشباب العراقي بشكل غير مسبوق لتعكس حالة الإحباط نتيجة تدهور الأوضاع في العراق وإنعدام الأمل بتغييرها. إذ تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أنها سجلت في العراق 633 حالة إنتحار خلال عام 2013 لوحده (من المحتمل جداً أنها إحصائيات حكومية رسمية وهي بالتالي غير دقيقة بالتأكيد). ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الأرقام لا تعدّ دقيقة، لأن الكثير من حالات الإنتحار في العراق هي حالات غير مبلّغ عنها، بسبب الدين والمجتمع اللذين يعتبران الإنتحار من المحرّمات، حيث تتعامل بعض المجتمعات في العراق مع بعض حالات الإنتحار على أنها فضيحة، فتختلق غالباً أسباباً أخرى للوفاة حفاظاً على سمعة الشخص المنتحر وعائلته. هذا وأشارت إحصائية منظمة الصحة العالمية الى أن ذي قار سجلت أعلى حالات الإنتحار في المحافظات العراقية، ومعظمها من الشباب الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عاماً.
من الجدير بذكره أن هناك ما بين 800 ألف إلى مليون شخص تقريباً يموتون كل عام عن طريق الإنتحار، أي بمعدل شخص كل 40 ثانية. ويعتبر الإنتحار ثاني أهم سبب للوفاة بين من تتراوح أعمارهم بين 15 و 29 عاما على الصعيد العالمي في عام 2015. كما وتستأثر البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بنحو 78% من حالات الإنتحار في العالم، وأن معدلات الإنتحار أعلى في الرجال عنه في النساء، حيث أن الذكور أكثر عرضة لقتل أنفسهم من الإناث بمقدار 3-4 مرات، وهناك ما يقدر بنحو 10 إلى 20 مليون محاولة إنتحار فاشلة كل عام، وهذه المحاولات أكثر شيوعاً بين الشباب والإناث. هذا وقد تأثرت وتباينت وجهات النظر حول الإنتحار بالموضوعات الوجودية العامة مثل الدين والشرف ومعنى الحياة.
ورغم أن معدلات الإنتحار بشكل عام منخفضة عربياً، تأتي بعض الدول العربية في مراكز متقدمة من الدول المسجلة لأعلى حالات الإنتحار في العالم، كالسودان التي تقارب نسبة الإنتحار فيها نسبة قارّة آسيا بأكملها.
من هم المعرضون للخطر؟
على الرغم من أن العلاقة بين الإنتحار والاضطرابات النفسية (خاصة الاكتئاب والاضطرابات الناجمة عن تعاطي الكحول) معلومة تماما في البلدان المرتفعة الدخل، إلا أن هناك العديد من حالات الإنتحار التي تحدث فجأة في لحظات الأزمة نتيجة انهيار القدرة على التعامل مع ضغوط الحياة، مثل المشاكل المالية، أو انهيار علاقة ما أو غيرها من الألآم والأمراض المزمنة.
بالإضافة إلى ذلك، تقترن النزاعات والكوارث والعنف وسوء المعاملة أو الفقدان والشعور بالعزلة بقوة بالسلوك الإنتحاري. وترتفع معدلات الإنتحار كذلك بين الفئات المستضعفة التي تعاني من التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين.
إن أسباب الإنتحار متعددة، وقد يفسر سبب هذا الارتفاع في نسب الإنتحار في بعض الدول العربية، كالعراق مؤخراً (منذ الإحتلال عام 2003 ولحد الآن) بالتشرد وعدم الاستقرار والمشاكل المالية، والتمييز الطبقي أو الطائفي الذي يطبّق على المهمّشين والمهاجرين واللاجئين. ويأتي الاكتئاب كأحد أهم أسبابه في العالم، إذ يفسر تقرير لمنظمة الصحة العالمية تحت عنوان “الوقاية من الإنتحار ضرورة عالمية” أن إرتفاع نسبة الإنتحار في بعض الدول العربية ومنها العراق والسودان سببه عدم الاستقرار والحرب والفقر والتشريد، إذ يعاني الكثير من الشباب في تلك الدولتين العربيتين من شعور “عدم الجدوى”، ويقرروا وضع حدّ لحياتهم بنفسهم.
وكانت العديد من مخيمات النازحين المنتشرة في مناطق العراق قد شهدت مؤخراً وقوع عدة حالات إنتحار بين الشباب والأطفال نتيجة الضغوط النفسية في ظروف النزوح والتشرد والاغتراب داخل الوطن.
وكانت مفوضية حقوق الإنسان العراقية كشفت عن زيادة معدلات الإنتحار في العراق خلال العام 2013 الماضي عن سابقتها بنسبة 60 في المئة ماعدا اقليم كردستان، وأشارت إلى ان محافظة ذي قار سجلت أعلى حالات الإنتحار في محافظات العراق بـ (119) حالة.
وقالت المفوضية في بيانها أن “633 حالة إنتحار مسجلة بشكل رسمي في العراق خلال عام 2013 الماضي أغلبهم من الشباب، وبزيادة وصلت 60 في المئة عن عام 2012″، ومشيراً إلى أن مشاكل إقتصادية وإجتماعية ونفسية، فضلاً عن حالات التفكك الأسري تقف وراء دفع العراقيين إلى الإنتحار.
إن ضعف أداء المؤسسات الصحية والبحثية التي من شأنها أن تعالج حالات ودوافع الإنتحار بين شريحة الشباب قد أسهم الى حد ما باستفحال ظاهرة الإنتحار حيث لجأ العديد من الشباب والمراهقين ونتيجة لغياب الوعي وحالات اليأس والتهميش التي يمرون بها، الى تعاطي الحبوب والمواد المخدرة في محاولة منهم للهروب من قسوة الواقع.
ويتفق باحثون ومعنيون عراقيون على أن اسباب الإنتحار في العراق هي نفسية وإجتماعية وإقتصادية، وإلى أن العوز والفقر وتهميش المرأة تعد من الاسباب التي أدت إلى زيادة أعداد المنتحرين في ذي قار، على سبيل المثال، كما أن التقاليد كثيراً ما تدفع بالمرأة في المجتمعات المغلقة الى الإنتحار.
وهناك قضية في غاية الأهمية لم يسلط الضوء عليها، نظراً لحراجتها في المجتمع العراقي، وهي أن بعض حالات الإنتحار كانت نتيجة حالات زنا بالمحارم، مما يدفع بالفتاة للإنتحار أو أن تقتل ويبرر الفعل بأنه إنتحار، وأغلب اللواتي تعرضن لمثل هذه الحالات هن من المراهقات.
وفي جميع الاحوال، تكمن الاسباب الرئيسة للإنتحار في شخصية الفرد نفسه وسايكولوجيته داخل البيت والمجتمع. ويوضح باحث عراقي أن حالات الإنتحار تزداد بين الشباب نتيجة حالات الإحباط المستمرة، وبسبب عدم تلبية إحتياجاتهم، ومقارنة وضعهم مع وضع أقرانهم أو أصدقائهم، فيشعر الشاب بوجود فجوة كبيرة بينه وبينهم. كما أن ظاهرة الإنتحار لا تقتصر على طبقة دون أخرى فهي تحدث عند الطبقة الغنية بسبب الفراغ الفكري والثقافي ووجود إحباطات عاطفية، ولدى الطبقة الفقيرة نتيجة العوز والفقر وغيرها.
وبهذا يمكن التأكيد إلى أن دوافع الإنتحار تعود إلى جملة من الأسباب، بينها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية غير المستقرة التي أشاعت أجواء قاتمة من اليأس في نفوس الشباب، إذ تتفشى البطالة وترتفع معدلات الفقر وتتضاءل فرص التعيين أمام الشباب عموما والخريجين بشكل خاص.
وأشاروا إلى أن الضائقة المالية التي يمر بها الشباب لاسيما المتزوجين منهم تجعلهم عاجزين عن مواجهة الضغوط الحياتية والمتطلبات الأسرية، وبالتالي تدفعهم للإنتحار في ظل غياب المعالجات الحكومية الحقيقية لمشكلة البطالة.
تقر منظمة الصحة العالمية بالإنتحار كأحد قضايا الصحة العمومية التي تحظى بالأولوية. حيث كان أول تقرير لمنظمة الصحة العالمية حول الإنتحار بعنوان “الوقاية من الإنتحار: ضرورة عالمية” والذي نشر في عام 2014، يهدف إلى زيادة الوعي بأهمية الإنتحار ومحاولات الإقدام عليه من منظور الصحة العمومية، وإلى جعل الوقاية من الإنتحار أولوية قصوى على جدول أعمال الصحة العمومية العالمي. كما يهدف التقرير إلى تشجيع البلدان ومساعدتها في تطوير أو تعزيز استراتيجيات شاملة للوقاية من الإنتحار في سياق نهج متعدد القطاعات للصحة العمومية.
ويعتبر الإنتحار من الأمراض التي تحظى بالأولوية في برنامج منظمة الصحة العالمية للعمل على رأب الفجوة في الصحة النفسية والذي تم إطلاقه في عام 2008، ليوفر التوجيه التقني المسند بالبينات لرفع مستوى تقديم الخدمات ورعاية الاضطرابات النفسية والعصبية والمتعلقة بتعاطي مواد الإدمان.
ورغم معرفتنا أن وزارة الصحة وضعت خطة لبحث ومعالجة ظاهرة الإنتحار بين الشباب التي سجلت أرقاماً متصاعدة في معظم أنحاء العراق من خلال عقد ندوات تثقيفية في دوائر الصحة العامة بالعاصمة والمحافظات للتعريف بأسبابها، ووضع الحلول للحد منها بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة، فضلا عن إدراج هذه الموضوعة في برنامج أصدقاء الشباب واليافعين الذي انطلق في مركز الصحة الأولية بدعم من الأمم المتحدة … إلا أن أحدا لم يسمع بتنفيذ هذه الخطة على أرض الواقع.
هذا وتتحفظ وزارة الصحة العراقية على إحصائيات حالات الإنتحار، ويأتي هذا الكتمان وسط إعتراف رسمي من قبل مجلس النواب بازدياد حالات الإنتحار بين الشبان في العراق، حيث حذرت لجنة حقوق الإنسان البرلمانية من “إزدياد حالات الإنتحار بين صفوف الشباب والشابات في مختلف انحاء العراق بشكل مخيف ومقلق ولافت للنظر”، مطالبة الحكومة بـ “عدم الاكتفاء بدور المتفرج والإسراع في إقرار قانون العنف الأسري وإجراء مسح شامل لمعالجة هذه الظاهرة”.
إن التقليل من حالات الإنتحار في العراق يستدعي من السلطات الرسمية والجهات الأكاديمية والدينية المعنية التحرك لمعالجة هذه الحالة عبر مجموعة إجراءات وخطط عمل يشترك فيها الأطراف المؤثرون لدراسة إيجاد علاجات ممكنة لرفع مستوى الوعي لدى الشباب كإستحداث مراكز لمعالجة تلك الظواهر الاجتماعية ووضع الحلول للحد منها، إضافة إلى تنظيم زيارات ميدانية للأفراد الذين حاولوا الإنتحار وتقديم النصح والدعم الممكن لهم، لإنتشالهم من أزماتهم النفسية والإجتماعية للأخذ بيدهم وإعادة دمجهم بالمجتمع.
إن الحد من تنامي ظاهرة الإنتحار في العراق في الظروف الحالية يبدو صعبا للغاية خاصة مع تفاقم التحديات والضغوط الاقتصادية والأمنية والنفسية في البلاد، وعدم وضوح معالم لتحسن الأوضاع عموماً في الأمد القريب، وهو الذي كان وراء موجة الهجرة غير الشرعية لمئات الألوف من العراقيين إلى أوروبا خلال العام الماضي.
[email protected]