كثيرا ما تصدمك عناوين تتحدث عن الاسلام السياسي باسلوب ينتقد ويستهجن تارة ، ويستغرب اخرى، حتى بدأ يركز في الذاكرة العامة، يوما بعد يوم، مفهوم لمصطلح الاسلام السياسي مغاير تماما لما ينبغي ان يكون عليه الاسلام السياسي.
يبدو عند كثيرين ممن يكتبون – المقال وليس البحث طبعا – ان الاسلام السياسي بدعة ابتدعتها احزاب اسلامية وصلت الى الحكم، او انها في طريقها اليه، في العراق او بلدان اسلامية اخرى، بل ان هؤلاء الكتاب يحملون الاسلام كل اخطاء السياسيين الاسلاميين، حتى بات مصطلح الاسلام السياسي مصطلحا مستهجنا بل ممقوتا عند كثيرين، وفي تقديري ان الاصرار على هذا النهج خطيئة، لانه نهج يلفق حقائق لا وجود لها، يصطنع لها وجودا، ومن ثم يسوقها في اوساط الناس، الذين يتلقونها من دون تحقق، ويتعاملون مع هذه الاوهام المسوقة على انها حقائق، وفي هذا المسعى الآثم تضليل لا يرضي الله ولا الضمير.
من دون شك ان هناك مخطئين في اوساط الاحزاب الاسلامية، مثل ما ان هناك مخطئين في اوساط الاحزاب الاخرى، ولكن هذا لا يعني ان نحكم على العمل السياسي برمته بجريرة خطأ يرتكبه سياسي هنا وسياسي هناك، فالتعميم اسلوب ينطوي على كثير من التضليل، بالضبط مثل التعميم في الاختلافات المذهبية، او بالتحديد الخلاف بين السنة والشيعة، فعندما يتكلم شيعي بطريقة مسيئة الى رموز سنية، يقال ان الشيعة يقولون هذا، في حين انه كلام لشيعي قد لا يوافقه عليه معظم الشيعة، وكذلك الامر بالنسبة الى كلام يصدر عن سني مسيء لرموز شيعية، عندما يوصف بالتعميم المضلل نفسه، وهنا يستوقفني رأي المفكر اليمني زيد بن علي الوزير في هذا الخصوص حيث يقول لنسمي القائل، ونحمله وحده مسؤولية كلامه، عندها تضيق دائرة الخلاف، وسنجد ان هناك ما هو اوسع منها داخل المذهب الواحد، فهي دائرة ضيقة، يراد لها ان تتسع لاهداف لا علاقة، من حيث الجوهر، بالدين ولا بالمذهب، على الرغم من ان بعض اعراضها قد تبدو دينية او مذهبية، الا انها بمعظمها اهداف سياسية، لا ابرئ الا حزاب الاسلامية منها، او اهداف ذات علاقة بمخططات استخبارية.
ان موضوع الاسلام السياسي الذي يساق بهذا التعميم، انه يعبر اما عن جهل مفرط بحقيقة ان الاسلام منظومة إلهية متكاملة للشأنين الديني والدنيوي، او تجاهل لهذه الحقيقة، له اهداف لا يمكن ان تكون بريئة ابدا، فالجهل لا ينفي حسن النية، اما التجاهل فيؤكد نفيها، وعليه فان الكاتب الموضوعي حذر عندما يتحرك فوق هذه المطبات الفكرية والثقافية ، وربما العقدية.
لنا ان ننتقد، او نفضح اذا لزم الامر، او اقتضت الضرورة، اي سياسي اسلامي فاسد، مثل ما نفعل مع اي سياسي آخر، ولكن ليس لنا ان نعمم، فنتكلم عن الاسلام السياسي، وكأنه بدعة ابتدعتها بعض احزاب السلطة في العراق والبلدان الاسلامية، لان الاسلام دين معني بامر الامة السياسي والروحي، وان اول مظاهر الاسلام السياسي كان على يد رسول الله (ص) فوثيقة المدينة المدينة المنورة _ وهي وثيقة تضمنت على رواية راجحة اربعا وخمسين مادة، وكانت مثالا للوثيقة القانونية الدستورية _ التي كتبت ، بعد وصول الرسول الكريم (ص) الى المدينة المنورة مهاجرا من مكة المكرمة هو واصحابه، باشرافه عليه الصلاة والسلام، وبمشاركة كل مكونات المجتمع المدني – اقصد مجتمع المدينة المنورة -، وهي ثلاثة مكونات اساس: المسلمون ، والعرب من غير المسلمين، واليهود ، فقد انصهرت هذه المكونات الثلاثة في عقد اجتماعي بثق امة سياسية، تقيم على ارض محددة المعالم والسيادة، ولها قائد هو رسول الله (ص) اختير بكامل الحرية والارادة، فصحيح ان المسلم امام رسول الله (ص) لا خيار له الا الانضواء تحت قيادته المباركة ، وهو مكلف بالانقياد له والسمع والطاعة، ولكن غير المسلم، من عرب الجاهلية او اليهود، هو حر في اختيار النبي قائدا او لا، وعليه فان النبي (ص) كان قائدا سياسيا اختاره بحرية مجتمع المدينة المنورة، المنتظم بعقد الوثيقة التي صيرت المدينة المنورة دولة، وصيرت اهلها مواطنين متساوين في كل الحقوق السياسية، وقد سمّت فقرات الوثيقة مجتمع المدينة كله بالامة، ومن دون شك انهم امة دعوة، يشملها كل خطاب قراني يبدا ب(يا ايها الناس ) اما المسلمون فهم امة ايمان خاطبها الله تعالى ب(يا ايها المؤمنون )، فان مجتمع المدينة بعد التوقيع على الوثيقة هو امة سياسية لها منظومة حقوق وواجبات يلزم المسلم بها دينا وقانونا من باب الوفاء بالعهود ويلزم بها غير المسلم قانونا، فهذه هي حقيقة الاسلام السياسي نستقرئها من سنة رسول الله (ص) الفعلية، اما الممارسة الفاسدة لسياسي مسلم، فتمثل حقيقته وليست حقيقة الاسلام السياسي .
فلنبتعد عن التعميم المضلل ونسمي الاشياء باسمائها، فنقول، على سبيل المثال، ان هذا السياسي المنتمي الى هذا الحزب الاسلامي فاسد، ثم نسرد وقائع فساده، تماما مثل ما نقول في اي سياسي من حزب غير اسلامي، ولنكف عن توجيه التهم الى الاسلام السياسي وتصويره بهذه البشاعة، التي تعبيء الوجدان الشعبي بمعلوات مضللة.