ليست جذوري من أرضها الخالدة , ولم أزورها سوى عددا قليلا من المرات , ولكني أكن لها حبا كبيرا ويشدني إليها شوقا اعجز عن وصفه بكلمات , إنها البصرة الفيحاء التي علمتنا الكثير من الأشياء , فالبصرة التي يعيش من خيراتها اغلب العراقيين , ولم تنعم يوما بكامل ثرواتها ولم يهدأ لها بال , فكانت ولا تزال من اكبر المانحين والمضحين , فقد شهدت أرضها ومائها وسمائها معارك وحروب ومرت من بوابتها القوافل التي جلبت الشر والخير من كل الاتجاهات , ومن كثرة خيرها فقد احتضنت أرضها نخيلا بأنواع نفيسة من النمور لكي يستظل العراقيين بفيء سعفها ليكتبوا أجمل القصائد كما فعل السياب , ومن البصرة يستخرج ويصدر أكثر نفط العراق وتنتج أكثر من ثلثي إيرادات العراق , ولكنها تعيش أكثر مدن العراق فقرا وتخلفا وقصورا في الخدمات وتفتقر لأبسط المستلزمات وهو الماء الصالح للشرب .
وفي البصرة تتواجد كوادر وملاكات غاية في الذكاء والتفوق بمختلف الاختصاصات , ففيها جامعة البصرة العريقة وجامعة الجنوب التقنية وعشرات المراكز التخصصية التي كانت ولا تزال منهلا للعلم والمعرفة والتطبيق , والحركة الأدبية والرياضية والفنية في البصرة غنية عن الوصف لأنها حققت انجازات عديدة داخل وخارج العراق وما المربد إلا شاخصا وشاهدا على التفوق العالي للبصريين , وفي البصرة أيضا المنفذ البحري الوحيد الذي يطل على العالم من خلال الخليج العربي , الذي يمكن من خلاله ربط مشرق العالم بمغربه وبالعكس فالبصرة هي بوابة الدوران حول العالم من دون حاجة لاستخدام البحر , وقد تساءل الكثير خلال التاريخ عن أسباب بقاء البصرة متمسكة في البقاء مع العراق رغم إن جميع عوامل الانفصال قائمة , والسر يكمن في محبة أهلها للعراق والعراقيين والعيش معا في السراء والضراء .
وبعد تشريع قانون الأقاليم سنة 2008 بدأت بعض المحاولات لتحويل البصرة إلى إقليم , ورغم القناعة الكبيرة بالحاجة الملحة إلى تشكيل إقليم يبقى تحت خيمة العراق بأقل درجات الحرمان , كرد فعل على الظلم الذي تتعرض له البصرة من حيث حصتها من الموازنة والتعامل معها بأقل من كونها اكبر منتج للدخل وافتقارها لأبسط الخدمات مثل الكهرباء لانها من أكثر المحافظات ارتفاعا في درجات الحرارة في فصل الصيف , ناهيك عن الظلم الذي تتعرض له من التمثيل في المواقع والمناصب في الحكومة الاتحادية , رغم أنها تشكل نسبة مهمة من مجموع السكان ويمتلك سكانها من المهارات والخبرات والقدرات التي تؤهلهم لإشغال أعلى المناصب , وقد ترفع البصراويون عن الإلحاح في طلب إقامة إقليم البصرة لسبب واحد , وهو أن الظرف السياسي للبلد لم يكن مناسبا وإنهم لم يريدوا أن يكونوا سببا في جلب المزيد من الألم للعراق .
وبدلا من تفهم هذا الموقف الوطني المشرف , فقد راح البعض يزيد من الضغط على آلام البصريين من خلال تقليل حصتهم من الموازنة والبترو دولار وعدم تلبية الاحتياجات الضرورية من الماء الصالح للشرب والكهرباء وغيرها من الخدمات , بل إن الأمر امتد لمحاولة نشر الفرقة بين المكونات وافتعال الأحداث والخلافات , وقد ترفع عنها العقلاء وراحوا يحلون مشاكلهم ويحاولون درأ الفتنة وتجفيف منابعها , وفي ظل الأحداث التي شهدها العراق في الدفاع عن المقدسات وسحق الدواعش الأنذال , ارتفعت الأصوات مرة أخرى لإقامة اقليم البصرة كاستحقاق قانوني ووطني , وهو مطلب قد تختلف بخصوصه الآراء ولكنه لا يتطلب التحدث عنه بحياء , فأما أن يتم المضي به بصوت غير أبح وإما أن يتم تأجيله , فأهل البصرة أصحاب قرار وموقف وهم وحدهم من يقررون ولا نعتقد إن هناك إرادة شريفة تقف بالضد من قناعاتهم ما دامت في إطار المشروعية والضرورة والقانون , والجميع يعلم أن البصرة بإمكانها أن تحصل على الإقليم لان جميع المتطلبات متوفرة سواء ما يتعلق بالجانب البشري أو المادي , ولكن المسالة تتعلق بقناعة أهلها لأنهم هم وحدهم من يقررون .
وفي الطرف المقابل جغرافيا من جنوب العراق , تطلق يوميا المئات أو العشرات من التصريحات التي تدعوا إلى حق تقرير المصير والرغبة في الانفصال , رغم الفارق الشاسع والكبير بين الواقع اليومي بين محافظات إقليم كردستان ومحافظة البصرة من حيث الأمن والاستقرار والرفاهية والخدمات والشعور بالمظلومية أو غيرها من العوامل التي يمكن استخدامها للمقارنة , فلو تمت المقارنة بين البصرة وكردستان , ربما لا تحصل فيها البصرة على عشرة من مئة درجة في أحسن الأحوال , وفي أحدث تصريحات للسيد مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان العراق معقبا على زيارة السيد ألعبادي الأخيرة للإقليم , قال إن المشكلات والخلافات لا يمكن حلها جميعا في زيارة واحدة وان مطلب الانفصال يبقى حقا للإقليم رغم تلك الزيارات , ولعل أجمل ما في تصريحات البارزاني وغيره من المسئولين في الإقليم أنهم يعلنونها في الملأ دون أي إحراج ولكنهم لا يحددون الوقت الذي سيتم اختياره للانفصال .
والفارق بين البصرة وكردستان , إن الراغبين في إقامة إقليم البصرة يتكلمون عن الموضوع بتأني وبضوء ما يجري في العراق من أحداث وتداعيات , ورغم وجود القناعة بالإقليم إلا إن البعض يعتقد إنهم يطلبون طلبا في وقته غير السليم حتى وان كان في سياقه الصحيح , وفي كردستان يطلق السياسيون الرغبة في فكرة الانفصال ويعدونها من قناعة وليس من فراغ ولم يطلقوها للتطبيق بعد لأنهم بانتظار التوقيت المناسب , والحديث عن هذا التوقيت له العديد من التفسيرات والتساؤلات والاستنتاجات , التي لا تزال بحدود الأمنيات وربما سيكشف عنها في القادم من الأيام , سواء بعد تحرير الموصل أو لما بعد ذلك , لان المسالة معقدة ولها حسابات أخرى , فإقليم البصرة يبقيه داخل العراق وإقامته لا يشكل مخاطرة كبيرة ولهذا يمكن التريث فيه , وانفصال إقليم كردستان تقع حساباته ونتائجه ومخاطره أو محاسنه خارج الحدود وشانه يختلف عن موضوع إقامة إقليم لأنه إقليم بالفعل ومع ذلك يتم الجهر به علنا وليس في الخفاء , ورغم الفارق بين المطلبين إلا إن قلوب اغلب العراقيين لا تفرق بين حب البصرة وكردستان , لان هذه القلوب تميز بين حاجات الشعب ورغبات ومصالح السياسيين.