18 ديسمبر، 2024 4:46 م

الحداثيون العرب والسُّنّة النبوية

الحداثيون العرب والسُّنّة النبوية

السنّة في اللّغة: الطريقة، وفي الاصطلاح: ما صدر عن النبي (ص) من: قول أو فعل أو تقرير. وهي الحجّة الثانية بعد الكتاب العزيز، سواء أكانت منقولة باللفظ أم بالمعنى، وقد خصّ اللّه بها المسلمين، دون سائر الاَمم، وقد اهتمّ المسلمون بنقل ما أُثر عن النبي (ص)، وتحرّوا في نقله الدقة، وكفى في كونها من مصادر العقيدة والتشريع قوله سبحانه: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى)، والآية وإنْ كانت ناظرة إلى الوحي القرآني لكن قوله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى) قاعدة كلية، في كلّ ما يصدر منه (ص)، ويصدق عليه أنّه مما نطق به، قال سبحانه: (وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعلّمَكَ ما لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). والمراد من الفضل العظيم علم النبي (ص)

إنَّ السنة النبوية تشكل المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، لكل طوائف المسلمين الذين يجمعون على أصالة الحديث الشريف وحاكميته، بعد القرآن على كافة التشريعات والعقائد، ومع الاختلاف الحاصل في الجزئيات إلا أنَّ الاتفاق قد جرى على عدم المساس بالسنة النبوية، والتشكيك بها، لا سيما في الثوابت المتمثلة بعصمة النبي في التبليغ لأحكام الشريعة، وأنَّ ما صدر عنه حجة على المسلمين بعد القرآن الكريم. وقد حفلت آيات “القرآن الكريم” بالعديد من الآيات التي تؤكد هذا المعنى، وتحث المؤمنين على الالتزام بطاعة الرسول الأكرم (ص) بوصفه مصدراً للتشريع، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قوله تعالى: (وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحيٌ يُوحى) ، وقوله تعالى: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). فهاتان الآيتان ونظائرهما تؤكدان وتلزمان المسلمين بالاقتداء، والطاعة للرسول الأكرم (ص)، بعد إثبات أنَّ قوله وفعله وتقريره من سنخ القرآن الكريم، وليس من البدع، وأنَّ كل ما يصدر عنه (ص) واجب الأخذ به، وإتباعه، وأن كل ما ينهى عنه واجب الامتناع عنه.

كما تتأتى أهمية السنّة النبوية في أنها تارة تكون ناظرة إلى القرآن، فتبيّن مجملاته، كالزكاة والصلاة والصوم، أو تخصّص عمومياته، أو تقيّد مطلقاته، وأُخرى تكون ناظرة إلى بيان العقيدة والشريعة، فحسب، وفي كلا القسمين تكون الصياغة والتعبير للرسول (ص)، ولكن المحتوى وحي من اللّه سبحانه، ولذلك تُعدّ السنّة عِدلاً للقرآن الكريم، فالصلاة والزكاة والصوم والحجّ أُمور توقيفية لا تُعلم إلاّ من سنّة الرسول (ص)، وقد صلّى (ص)، وقال: «صلّوا كما رأيتموني أُصلي» وبذلك رفع الإجمال عن ماهية الصلاة، ومثلها في باب الزكاة والحجّ وغيرهما من أبواب الفقه. ولقد اتفقت الأمة الإسلامية على أنَّ السنة المصدر الثاني بعد الكتاب، بل ذهب أئمة أهل البيت الى أنَّ جميع ما يحتاجه الناس موجود في الكتاب والسنة. قال الإمام الباقر (ع): “أن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة الا أنزله في كتابه، وبينه لرسوله، وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا”. وقال الصادق (ع): “ما من شيءٍ إلا فيه كتاب أو سنة” .

إنَّ محاولة الاكتفاء بالقرآن كمصدر للتشريع الإسلامي لا يمكن القبول بها، لأنها مخالفة للعقيدة وللمنطق، بحكم أنَّ السنة الصحيحة مكملة لكليات القرآن، وموضحة لجزئيات الأحكام الشرعية. على سبيل المثال: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج الى بيت الله الحرام. فليس في القران من احكام الصلاة سوى تقرير وجوبها وحسن ادائها، وليس فيه عن الزكاة إلا الأمر بإدائها وبيان الجهات الثماني التي تستفيد منها، وليس فيه عن الصيام الا بعض من أحكامه بعد بيان وجوبه على المكلفين، وليس فيه عن الحج الا طائفة من احكامه، أما أركان الصلاة وواجباتها وسننها وشروطها وعدد ركعات الفرض الواحد، وإفراد الركوع وتقنية السجود، وكيفية كل منهما، والصلوات المفروضة والمسنونة والمندوبة وكيفية القراءة فيها، والدخول فيها والخروج منها، الخ، فهذا ما لا وجود له في القرآن، وطريق معرفته السنة. وأمّا ما هي الاموال التي تجب فيها الزكاة، وشروط الزكاة، ومقاديرها، الخ، فهذا ما لا وجود له في القران، وطريقه معرفته السنة. وهذا يقال عن كل من الصيام والحج، فكيف تكتفي الأمة بالقران عن السنة، والسنة روح القرآن، ومفاتيح فهمه، والعمل به .

 

مشكلة الحديث

قال النبي الأكرم (ص): (أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله، فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله) . إنَّ هذا الحديث الشريف يمثل معيارا لتنقية الأحاديث المروية عنه الرسول الأكرم (ص) وقبولها، والتي أكثر أعداء الدين من الكذب فيها، ووضعت اغلبها في العهدين الأموي والعباسي، نتيجة تأثير السلطات آنذاك في الدين والمذاهب التي ابتدعت لتشويش عقائد المجتمع الاسلامي وخدمة الحكام وسياساتهم في الحكم.

لقد حرصت المدارس الإسلامية على المضي في عملية “تصحيح الحديث” بسبب عمليات الدس والتشويه التي طالت الاحاديث، ولذلك حرص العلماء على تنقية الحديث عبر مناهج دقيقة، لتخليصه من الدس والكذب، وتقييم الأحاديث المقبولة وغير المقبولة، وعمدوا أولا الى تصنيف الحديث على أساس الاسانيد، ومن ثم المتن، ولكن التركيز، في مذاهب أهل السنة، بقي على الأساس الأول (الاسانيد) لأسباب عديدة، أهمها توقف عجلة الاجتهاد، والاقتصار على كتب الصحاح الست الرئيسة، في المجال الفقهي. وقد قسم علماء الحديث، من أبناء العامة، الحديث (النبوي) المقبول اقساما ثلاثة:

الحديث الصحيح، وهو أعلى الأقسام الثلاثة.

الحديث الحسن، وهو يلي الحديث الصحيح في القوة.

الحديث الضعيف، وهو يأتي في الدرجة الثالثة في قوة السند.

ثم قسموا الحديث تقسيما ثنائيا باعتبار عدد رواة الحديث، وهما:

الحديث المتواتر: ما رواه جماعة مستفيضة عن مثلهم من بداية السند الى نهايته، مع استواء العدد في كل حلقة.

حديث الآحاد: ما كان رواته أقل عددا من رواة الحديث المتواتر، وان كانوا لم يجمعوا على بداية عددهم .

أما الشيعة، فقد عدّوا الحديث الشريف من أشرف العلوم، وأكثرها نفعاً، وبذلوا قصارى جهدهم من أجل تدوين علوم الحديث، فألفوا في غريب الحديث وغرائبه، كما ألفوا في علم رجال الحديث المتكفل بتمييز الثقاة من الرواة عن غيرهم، كما وألفوا في علم الدراية الذي يبحث عن العوارض الطارئة على الحديث من ناحية السند والمتن. ولأن الحديث اعتمد في تحمله ونقله الرواية الشفوية، ثم الرواية التحريرية، ولقد جاء أكثر الحديث عن طريق الآحاد، وخبر الواحد- كما هو مقرر ومحرر في علم أصول الفقه- لا يفيد اليقين بصدوره عن المعصوم، فوضع العلماء ما يعرف بـ (علم الرجال) و (علم الحديث)، لهذه الغاية النبيلة. وعلم الرجال: هو العلم الذي يبحث فيه قواعد معرفة أحوال الرواة من حيث تشخيص ذواتهم، وتبيين أوصافهم التي هي شرط في قبول روايتهم أو رفضها.

ولقد عدّ العلماء تعلّم علمي “الرجال والحديث” من شروط الاجتهاد المطلق، ومن أساسيات الفقاهة، وتطبيق عملية الاستنباط. ويمتاز الشيعة عن غيرهم، من المذاهب الإسلامية، بإخضاع كافة الرواة، من دون استثناء، للتقييم الدقيق، للتعرف على حالهم، وتميز الصالحين منهم والطالحين، والمؤمنين عن المنافقين، كي يتسنى لهم الأخذ من الصالحين دون غيرهم. أمّا علماء السنة، فيستثنون الرواة من الصحابة من هذا التدقيق والتقييم، فهم لا يخضعونهم أبدا الى التقييم، ويقولون بعدالة جميع الصحابة بلا استثناء .

إنَّ مشكلة الحديث السني الرئيسة القداسة التي يوليها علماؤهم لكتب الصحاح الاربعة التي تعدُّ خط أحمر، لا يمكن المساس به، حتى لو كانت سبباً في الفوضى وتسفيه مقام النبي (ص) والإساءة له، بمجاميع من الأحاديث الموضوعة التي كانت سببا في الطعن بشخصه وعصمته. ولهذا حفلت الصحاح الستة بآلاف الأحاديث الدالّة على تجسيم الربّ، أو عدم عصمة النبيّ والأنبياء قبله، أو على تحريف الكتاب، ويكفينا شاهدا على ذلك حديث (الغرانيق) المثبت في تفسير الطبريّ، وغيره من التفاسير، كما يوجد الكثير من الإسرائيليّات المنسوبة إلى الصحابة والتابعين، وبعضها منسوب إلى النبيّ (ص) .

 

 

منع تدوين الحديث

شكل منع تدوين الأحاديث النبوية انعطافه كبرى في مسيرة التاريخ الإسلامي وكبوة كبيرة لتدوين التراث النبوي والسنة النبوية بعد أنْ حرم المسلمون منها لأسباب واهية واجتهادات شخصية لا تخلوا من الحسابات السياسية لإفرازات انقلاب السقيفة، وما تلاها من احداث، لتكون احدى أهم نتائج ذلك المنع هذا الكم الهائل من الأحاديث الموضوعة والمفتراة على النبي الأكرم (ص) والتي لا يمت اغلبها لسيرته القرآنية الوضاءة..

وهنا ينبغي السؤال: هل كتب الرسول (ص) الحديث؟ وهل حث أصحابه على كتابته؟ وهل كتب المسلمون الاوائل أحاديث النبي الاكرم (ص)؟

يمكن الجواب على ذلك بأنَّ القرائن التاريخية والأحاديث الشريفة تؤكد على اهتمام النبي الأكرم بتدوين الحديث وكتابته، بعكس ما يدعيه محدثو أهل السنة، فكان (ص) يأذن لأصحابه برواية الحديث عنه، ويحثهم على كتابته. فقد (أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّ (خزاعة) قتلوا رجلاً من (بني ليث) عام فتح مكة، بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك النبي(ص)، فركب راحلته فخطب، فقال: إنّ اللّه حبس على مكة القتل، أو الفيل، وسلّط عليهم رسول الله والمؤمنين، ألا وإنّـها لم تحل لأحد قبلي، ولم تحل لأحد بعدي، إلى أنْ قال: فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله ؟ فقال: اكتبوا لأبي فلان، إلى أن قال: كتب له هذه الخطبة. وأخرج البخاري عن وهب بن منبّه، عن أخيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: “ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً عنه منّي، إلاّ ما كان من عبد اللّه بن عمرو، فانّه كان يكتُب ولا أكتُب” . ونلمس أيضا إقرار النبي (ص) لكتابة حديثه على عهده، ونعرف موقفه من هذا مما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: “كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (ص)، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله (ص)، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله، فأومأ بإصبعه إلي، وقال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حق” .

وكانت أولى بوادر المنع في عهد الخليفة الأول، فقد روى الحاكم في المستدرك أنَّ عمر بن الخطاب قال لقرضة بن كعب: “جرّدوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله”، ثم لما نهض بأعباء الخلافة نهى عن كتابة الحديث، وكتب إلى الآفاق: “أن من كتب حديثا فليمحه”، ثم نهى عن التحدث، فتركت عدة من الصحابة الحديث عن رسول الله (ص) . وهكذا اشتهر منع كتابة الحديث عن الخليفة عمر، وقد برر نهيه ومنعه من تدوين السنة النبوية باجتهاده الشخصي بعد أنْ تأثر بواقع اليهود وموقفهم من التوراة، فقد اخرج الهروي في كتاب ذم الكلام عن عمر بن الخطاب قوله: “إني كنت ذكرت لكم في كتابة السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت، فإذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء” فترك كتابة السنن .

 

المنهجية التاريخية في التعامل مع السنة النبوية

مشروع التشكيك بالسنة النبوية ليس وليد الحاضر، فجذوره تمتد الى عقود، بل قرون، وأنْ يكون مصدر تلك الحملات من داخل الوسط الاسلامي، فليس بالقضية الجديدة، فتاريخ الاسلام حافل بمثل هذه الظواهر السلبية التي غالبا ما تكون نتيجة التأثر بالآخر الغربي ومناهجه وأفكاره، ولمعرفة مقدار أهمية السنة النبوية للآخر، يكفي أنْ تطلع على ما قاله المستشرقون، وربما نكتفي في هذا المقام بذكر ما افصح عنه المبشر الامريكي (جب): “الإسلام مبني على الأحاديث، أكثر مما هو مبني على القرآن، ولكننا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة، لم يبق من الإسلام شيء، وصار أشبه بصبيرة طومسون، وطومسون، هذا، رجل أمريكي، جاء إلى لبنان، فقدمت له صبيرة، فحاول أنْ ينقيها من البذر، فلما نقي منها كل بذرها، لم يبق في يده منها شيء” . أمّا بالنسبة لجورج طرابيشي مثلاً فقد اعتمد في كتابه (النشأة المستأنفة) على المنهجية التاريخية، لمراجعة المنظومة الحديثية ونقدها عبر اخضاعها الى مراجعة جذرية، بداعي تقويمها في اطار المعالجة الحضارية، لتكون النتيجة النهائية الدعوة الى القطيعة التامة مع السنة النبوية.

ويقصد بالمنهجية التاريخية قراءة النص وفق زمن تولده الأول، ووفق السياق الذي قيل فيه، أو ورد فيه، فالنص انعكاس للثقافة السائدة، وناتج من نتائجها . والتاريخية كمفهوم تعاملت مع النص الديني بوصفه نصاً تاريخياً، صالح لبيئته الاجتماعية التي ولد فيها حصراً، ورفضت مرجعية الدين للإنسان، وسعت الى احالة تلك النصوص الى التقاعد بدعوى بلوغها السن القانوني، وانها موقوفة على زمان صدورها، ولا محل لها اليوم، “وينطلق مشروع الحداثيين العرب في مواجهة الإسلام كعقيدة وتشريعات عبر اعتمادهم مناهج التاريخانية والتفكيكية والبنيوية للتشكيك بالنص القرآني (الوحي)، أو نفي (النبوة) عن الرسول الاكرم، أو (نسف السنة النبوية)، وصولا الى الغاية الأساسية المتمثلة بإنكار الخالق، ونفي وجوده، أو إعلان موته، كما أعلن نيتشه الوجودي قبل قرن من الزمان” .

لقد استمد الحداثيون العرب كتاباتهم النقدية للدين من الآخر الغربي، فطبقوا مناهجه في قراءتهم للتجربة الاسلامية عموما، والنبوية خصوصا، من غير مراعاة لقدسيتهما في محاولة لمساواتها بالنصوص البشرية، واضفاء الصبغة التاريخية عليها. يخضع الحداثيون العرب النص الديني (القرآن والسنة) للمنهج التاريخي، لأنهما، بالنسبة لهم، مجرد نصين لا ميزة لهما عن باقي النصوص “النص الديني: القران والسنة يتشابه مع غيره من النصوص البشرية، فالنصوص المقدسة تشترك مع النصوص كافة في سمة واحدة، وهي خضوعها جميعا للتاريخ، ولعل ما ُيميز الفكر الحديث هو نزعة التعالي على النصوص الدينية وإخضاعها لسنن القراءة، شأنها في ذلك شان بقية النصوص” . وقد استهدفت التاريخية الجانب الغيبي في النصوص الاسلامية، تمهيدا لإلغائها، بالكامل، عبر حجر النص القرآني والحديث في خانة الزمكانية التي ولد فيها أو خرج منها، ويصف نصر حامد أبو زيد تلك النصوص الدينية (القرآنية والنبوية) بأنّها ليست سوى “نصوص لغوية تنتمي الى بيئة ثقافية محددة، تم انتاجها طبقا لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها المركزي” .

ثم لا يجد أبو زيد حرجاً في اعلانه بصريح العبارة ببشرية النص القرآني وتاريخيته وانه نتاج الواقع والتجربة الثقافية، فيقول بهذا الصدد: “وإذا كنا هنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية، فإن هذا التبني لا يقوم على أساس نفعي إيديولوجي يواجه الفكر الديني السائد والمسيطر، بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ، وإلى حقائق النصوص ذاتها” . أمّا محمد اركون، فيعبر عن السنة النبوية بالتجربة الدينية، ويرى انها تجربة خاصة بمحمد، وهي أنّها تستنسخ منظومتها المعرفية والحكمية من التوراة والانجيل، ومن بدو الجزيرة العربية، وانها تستمد غذاءها من الذاكرة الجماعية للشرق الأوسط القديم، ومن التعاليم الكبرى المبثوثة في المحيط من أهل الكتاب، ومن التراث الحي للشعب العربي خصوصا في منطقة الحجاز أي التراث الذي كان سائداً قبل الإسلام.

في ظل هذه الشروط يتم استبعاد أي بعد غيبي، بحيث لا يبقى للنصوص الشرعية سوى بعدي الزمان والمكان الذي وجدت فيه، إذن هي نسبية. وهذا يعني أنَّ ما جاءت به من عقائد وشرائع وأوامر ونواه تتغير وتتبدل مع تبدل الزمان والمكان. والغرض من ذلك نزع القدسية عن النصوص الإسلامية. ومن هذه المنطلقات والرؤى قرأ طرابيشي المنظومة الحديثية النبوية قراءة (تاريخانية) متطرفة ومتشنجة، وبلغة حادة، تجاوز فيها خطوط النقد الموضوعي وألغى الآخر، وعمل على تهوين شخصية الرسول (ص)، وتهميشها، وسلب أي دور لها في عملية اعادة بناء الانسان، وإخراجه من الظلمات الى النور.

 

 

[email protected]