بعد أن قفزّت بالإتجاه المعاكس تشكلت الحداثة الشعرية وكان هذا التشكيل نظاما خاصا به وقد عاش تمرده وقدم دليلة القاطع من واقع عميق ورؤيا جديدة تريد نسف التقاليد الشعرية القديمة والمضامين التي تحمل إنهيارها ،
إن الشاغل الذي كان يجول في عقول المحدثين هو كيفية تقليص المسافة مابين حداثة الغرب والحداثة العربية الجديدة وتفكيك ظاهرة الإزدواج والظلامية ،
كل ذلك تطلب الإحساس بذلك التناقض والسلب الإنساني لحريةٍ ماكانت غير رغبات مؤجلة ضمن الأنا التي تبحث عن سطوحها دون البحث عنها في الأعماق السحيقة فلابد أن يتصدر ذلك الهم نداء ما للولوج إلى
العبث ولتجاوز الواقع المألوف والانشغال بأزمنة خاصة وتحرير المكان من وظائفه المشروعة إنطلاقا من خلق منفى ما لإشغال عاطفة مشبعة بروح الفنتازيا ،لقد رأى أدونيس أن الشعر القديم كان يدير مهمة تزيينية أي أنهُ يضيف موجودا لموجود أخر محافظا على نسقه التشكيلي ومعانيه السائدة وأن بنائه إستمر على حاجته للتكرار لإعطاء وهج لتيسير قبوله ضمن الظواهر والحقائق ولاتتجاوزها وأن أفلحت هنا أو هناك في التجاوز فأن هذا التجاوز تجاوزا محدودا لايضمن إطلالة إبداعية ،
لقد مهدت الحداثة الجديدة إلى مساعدة الإنسان على الإنتقال من الخضوع والسلبية إلى الإستعداد للتفرس في الكون ومواجهته من خلال الثقة بالنفس والإيمان بقوى الإنسا ن وقدراته وأن كل مايعتريه سلبا وإيجابا هي القضية الكبرى التي لابد للشعراء من الإلتفات إليها وأستخلاص مايروه مناسبا لتجربة إنسانية صادقة وعداها فلن يكون ضمن المسار التاريخي العظيم ،
لقد دعا أدونيس ضمن مقالة له في مجلة شعر ومستخدما عبارات رينيه شار الشهيرة عن الشعر
إنه البحث عن عالم يظل بحاجة الى بحث وهو السفر الدائم الى ميتافيزياء الكيان الإنساني وهو مغادرة للصلة الشكلية الى المغامرة الإنسانية التي تمارس ضمن قوانين الحرية والإبتكار وهو يطرق أبواب العالم من أجل التحرر والخلاص ،
لقد أطيح بالصيغ التعبيرية الموروثة وخصائص الشعر القديم وتم الإنتباه إلى التواصل الشعبي في التراث وتجريده من محتوياته الخانقة ليتلاءم تفجير التجربة الروحية مع حاضرها وماضيها عبر قلق الإنسان الأبدي وتقلب نزاعه مع الحياة منذ ولادته ليوم رحيله ،وقد مهد ذلك إلى وعي المشاكل الشمولية والتجرد من المشاكل الخاصة الضيقة لتترك هذه النقلة خاصية مهمة في فهم الإغتراب ووعيه لفهم الإتجاه الغربي الحديث في الشعر دون المساس بخصوصية الإبداع في الحداثة العربية الجديدة رغم مشكلاته التي تكمن في مستويات اللغة والإنتماء الثقافي والعوامل النفسية والفنية وما أقامته التقليدية التاريخية من جدارها العازل بين متطلبات التجديد والرغبة في المحافظة على التقاليد الشعرية القديمة ولقد رأى أدونيس ماراه ريفردي أن الشعر قائم فيما لايكون أي فيما يظل ينقصنا دائما وبذلك وبما أن الإنسان يشعر بضياعه
المتواصل فهو بحاجة دائمة لإستكمال نقصه بتجديد فهمه للعالم وأختراق التراث والإنفتاح من خلاله على عالم أوسع وطرق أبواب لغة جديدة بديل اللغة التي إستنزفت وجودها بمفردات من صميم التجربة الإنسانية التي تهئ المناخ للقصيدة للتسامي في وحدة التجربة وفي الجو العاطفي الذي لايتفق مع التتابع العقلي والتسلسل العاطفي الذي بقي في شكليته البدائية والإنطوائية والباطنية ، لقد كشفت الحداثة الجديدة عن موقف فلسفي وميتافيزيقي إزاء تحرير الإنسان مما يهدده وأن يـخذ هذا التحرر شكلا متوازنا مابين حاجاته المادية والروحية وبذلك وضع للإنسان دوره في الرقي ضمن خصوصيته الفكرية والفنية ليصل الإنسان إلى الكمال في إختيار حريته
والى الكمال في تصور عالمه النقدي الذي يعترف له بوجوده ويفسح له مكانا رحبا للخلق والإبداع ولاشك فقد مثلت هذه الإنتقالة الشعرية إرتباطا عميقا في مجمل التحولات الروحية ضمن إنعطافاتها في اللحظات التاريخية المهمة،
فقد قام معول الحداثة المقدس بهدم البناء اللغوي للغة الشعرية في القصيدة القديمة وهو عمل جدي وجاد للإنقطاع عن القوانين وقواعد اللغة التقليدية والتحرر
من الإسلوب البدائي عند التعامل مع التراث بل أن هذا الهدم أخذ بنظر الإعتبار تفكيك المفردة القديمة بكيانها المعهود وكانت الإرادة واضحة لدى المحدثين في إعادة البناء على أرضية جديدة مستندين في هذا الى وسيطهم الجديد مع المجتمع إبتداء بالصفاء الشعري ووصولا إلى السمو للوصول لكونيتهم الخالية من الخلط والإعادة ضمن مشكلات لاحصر لها إزاء بدايات أولية لليقظة العربية وشيوع الأيدلوجيات وتقلص المسافات مابين النظريات الأدبية وتأثير مخلفات الحرب العالمية الثانية على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي وكذلك مفهوم الحريات وحقوق الإنسان ، لقد هيأ كل ذلك للمحدثين الجدد مواجهة هذا الخليط من الإشكالات بمفاهيم نظرية ولابد فيما بعد من الإنتقال ومن هذه المفاهيم
إلى تبني النظريات المناسبة ضمن ماأفرزته تلك المشكلات وكذلك التطورات التي يشهدها العالم على كافة الأصعدة وبالأخص منها التحول الذي طرأ على كيان المجتمعات التي بدأت في التحاور الذاتي عن متطلبات حاجاتها الأساسية وفي مقدمتها مسألة الحريات التي دخلت كأس ضمن الأزمة للثقافة العربية
مقابل الحاجة الروحية للإنفتاح الإنساني والإفادة من المشتركات بدلا من التطلع من خلال المناطق الضيقة
إلى محدودية الإبداع في الثقافة العربية والخضوع لمسمى( قداسة )المشروع التراثي والذي أستغل من قبل رواد القصيدة الكلاسيكية ضمن المفاهيم العامة والجاهزة نحو فهم التراث العربي وكيفية الإفادة منه ،
أن تأسيس حركة الحداثة وتحديدا جماعة (مجلة شعر ) تم على أساس تلك المشكلات التي ذكرناها وبالتالي فأن هذه المواجهة الشمولية تعني في جانبها الأساس أن همها كان إبداعيا ضمن مفهوم الوصول للجمالية وتحرير الذات ،
لاشك أن هذه الدعوة قد أتت بالحاجة التي يشعر بها الكثير من الشعراء العرب ولاشك بما لاقت من قبول وأستحسان وأنتماء من الشعراء حين سارعت أقلامهم بالكتابة في المجلة وحضور القسم منهم أسبوعية يوم الخميس ،أسماء كثيرة من العراق رفدت المجلة بقصائد ومقالات ومن الأردن ومن سوريا ومن لبنان وجلهم كانوا يمثلون الواجهة الإبداعية بين أبناء جيلهم كشعراء أو كنقاد مثل بدر ، نازك ، سعدي، بلند، موسى النقدي، سلمى الجيوسي ، خالدة سعيد، رنيه حبشي ، شوقي أبو شقرأ،
إن موسسي الحركة والمساندين لها قدموا تصورات جديدة عندما عرضوا إلى تحليل القصيدة القديمة وتحليل الأثر الذي تركته في عقلية المتلقي وانعكاس ذلك على إستجابته النفسية والعاطفية وبالتالي كانت المهمة شيئا من العسرة في تطويع الأذن القديمة وتعديل ألسنة النطق وجعل الأحاسيس برمتها تشترك في ذلك الإداء أمام لغة وبمرور الزمن قد إكتسبت حصانة دينية وبيئة كبيرة حاضنة بل رضا إلاهي كونها لغة القرآن المحفوظة صحائفه في السماء فالسطو عليها أو محاولة العبث بها يرقى إلى منزلة الخروج على الأعراف الدينية والأخلاق العربية وبالتالي فعده البعض بمصاف التنكيل بالحضارة العربية وما أتت به من متغيرات في صالح العقلية العربية كمنهج وسلوك
كانت الحساسية تجاه (اللغة ) تلك هي واحدة من المعضلات على أشدها لسبب سابق ذكرناه والسبب الأخر هو بطء التطور أو بالأحرى الشللية التي أصابت الفكر العربي في توجهاته الخاصة لإختيار لحظته المناسبة لإستيعاب النتائج المترتبة ما وراء الحربين العالميتين بعد أن قُسِمَ الوطن العربي ونمت الإقطاعية وتغلل الاستعمار في مفاصل متعددة من أجزاء الجسد العربي ورغم ذلك فلم يحفل القاموس العربي بشئ
جديد بإضافة نوعية رغم أن اللغة تتطور تطورا طبيعيا ضمن سياقاتها بسبب رسوخ الماضي التقليدي في العقل وفي المخيلة ،
إن النقد والرفض وإعادة الخلق من الصفات التي لازمت سعي المحدثين للوصول إلى السرية الساحرة
وموازنة الحفاظ على ما في اللغة من عذوبة وأنتهاكها ،والعذوبة هنا تكمن في تحسس أعماق المجتمع وليس الإقتراب من مناطق متحسساتها والإنتهاك يعني عند المحدثين إمتلاك إرادة التغيير من خلال الإحساس بوعي المعاناة من أن يكون الصوت والكلمة بمستوى الإحساس بالغد وليس التعبير عن الواقع المقيت حسب ،هذا التصور الذي ذكرناه عن اللغة جعل العديد من شعراء الحداثة يقفون بالضد نحو قواعد النحو ونحو فقه اللغة ودعوا لتصور جديد أو بالأحرى لإستعمال جديد للنظام الذي إرتكزت عليه قواعد اللغة العربية
إن الإنتقالية الكبيرة التي أحدثها المجددون في الشعر من مرحلة إنحطاط مضمونة إلى إنتقاله لروح العصر وأشباعه بمتحولات ذلك العصر يعني بأن ذلك التغيير ليس تغييرا في كيان الشعر فحسب بل ومثلما دعا إليه يوسف الخال في بيانه تغييرا في النظام المغلق والتجربة والحياة والعقل.