وجد النقاد الذين لازموا ثورة الحداثة الشعرية أن هناك طاقات ضخمة في اللغة وهذه الطاقات مخبؤه في بلاغة الغامض من الكلمة وما يشكله ذلك الغموض من إضافة مذهلة لسحر الجملة الشعرية والتي تديم إرسالياتها مع تلك الغرائبية التي تنقل المتلقي إلى المجاهل السحيقة لابتأثير المضمون العام للنص وإنما بتأثير السُّلم الإنتقالي الذي يتصاعد تباعا ولايختفي عند حد إنما يتواصل في حشد طاقات الدلالات والرموز والأفكار التي تُنتج أثناء سياق الإسترسال أو تلك التي تخلقها اللحظة المبكرة التي تخلق التعبيرات المكثفة
ذات المحتوى المتعدد ، وهي تحمل تناقضها الذي لايصل لنهاية .
وقد وجد النقاد معبرا أخر نحو جوهر الحداثة يتمثل في إستخدم شعراء قصيدة النثر في فرنسا وسائلهم الفنية الخاصة لقولبة التأثير المادي على المخيلة وهي أحدى الوسائل للتعامل مع المحسوسات ضمن محسوسات أخرى تتباين في الفائدة والحجم والشكل والوظيفة ،فهناك بدائل إستخدامية صالحة تكمن بإزاحة الشيء الأصل بشيء أخر أعمق كونية وأكبر إتساعا، وهذا يعني الدخول الى ماهو في ذاته ثم الإنتقال إلى تأثير قيمة مشابهة من حيث تأثير المعنى بما يولد تناقضا مطلقا مابين صورتها ووجودها ضمن حركتها الجديدة وما تعطيه من سلاسة ومرونة لتسهل عملية التزاوج مابين وحدات النص من جهة ،والموقف الجزئي والشمولي بوجود تمرد دائم في كل إعادةٍ لرؤيةٍ ما غير مشروطة بأتخاذ ملامح نهائية ،إذ أن ذلك التشتت أغنى التجربة بحميميتها وأدام زخم التطلع إلى الماورائيات غير المحدودة ليكون إنطباع الغرابة في قصيدة النثر الأوربية إلى تلك الفوضى الغير مباشرة التحسس التي يخلق شكلها بتمردها على الأسلوبية المشاعة بخروجها من المشهد الداخلي إلى
عالم الإمتداد اللامتناهي والعمق الزمني ،إهتمت قصيدة النثر في إيجاد صياغة جديده للأشياء التي ينتجها الواقع وهذا يعني أن الخيال لايتمثل بها رغم تأثيرها عليه فعلى الخيال أن يمنح قدراً آخر من القيمة لموجوداته كونه قادرا على الإبتعاد عن المناطق المألوفة وفيه سرعة المغادرة لكل الصور الشعرية التي سبق وأنتجها وهذا يعني أن هناك علاقة مابين الإنسجام وبين التناقض غير مرهونة بآلية معينة سوى آلية اللحظة المبتكرة التي تساعد على تقديم الشكل المتحرر الذي يؤمن إستخدام المطلق من الحرية والمطلق من العبث المنظم ،ووفق هذا التصور فأن المعرفة البنائية في قصيدة النثر لاتخضع إلى معمارية ترتيب الكلمات أو نظام تركيب الجملة الشعرية المعهود في القصيدة القديمة لا من حيث الشكل فقط وإنما من حيث الترابط التصويري التي تعمل المخيلة المفتوحة على إستكمال مظاهر الكلمات وأستدلالاتها وبذلك فأن العناصر الشعرية تكون على درجة من التوتر والحيوية وتؤمن إنسيابية السرد الشعري ضمن الدوائر المضغوطة وغير السائبة داخل بناء المعنى ليتم القبض على الجانب المُحير في أي حركة من حركات النص النثري ،
أشارت سوزان برنار حيث إتخذت من بودلير ورامبو ولوتريامون ومالارميه مايجمع ويتقاطع في الإيقاع والعنصر المخادع وأنماط الجمل والتراكيب اللغوية فهي تقدم تعريفا لمفهوم الشعر إستنادا لما يراه مالارميه (إن الشعر هو التعبير الخفي عن مظاهر الوجود ) ولاشك أن ذلك يعني عدم مس الوجود مساً مباشرا وكذلك إعادة نثر أجزاءه المتناثرة في صدفة لانهائية أمام عالم أخر لتأخذ المغامرة الشعرية فرصتها في تقديم أخر لغير المتجاوب الذي يمكن تحقيق علاقات جديدة من خلاله بأعتبار أن لحظة الإكتشاف هي لحظة قائمة في كل إنتقالية بين جملة شعرية وأخرى ،
لقد غيرت قصيدة النثر أي إنتقلت من نظام لآخر من نظام الأشياء التي إتخذت لها أنساقا متقاربة إلى نظام الأحاسيس ليصبح كل شئ ماخوذا بقدرة كثافة المخيلة عند خلقها لترسم صورها عبر إرسالية غير قابلة للإنتهاء .
إن الحداثة الجديدة ووفق الرؤية النقدية قدعملت على توسيع إهتمامات الشعراء في التجربة الإنسانية وتفننوا في فنية التجريب لتجارب الحياة للظفر بالأصيل الذي يلائم تطوره الحداثوي بعد أن هيئات لهم
تجربتهم الشعرية وسائل جديدة للتعبير باللغة الملائمة ولم يكتفوا فقط بكشف أسراها بل عملوا على إعادة صياغة تلك الأسرار وفق متطلبات حاجاتهم الشعرية الجديدة ،