23 أبريل، 2024 9:37 م
Search
Close this search box.

الحتمية التاريخية والاجتماعية لولادة النبي محمد (ص)

Facebook
Twitter
LinkedIn

هناك محطات رئيسية يتوقف عندها التاريخ عنوة، هذه المحطات تنبثق نتيجة حتمية تاريخية واجتماعية، وضرورة لابد لها من الوجود، ومن هذه المحطات  ظهور الأنبياء كمصلحين اجتماعيين، والزعامات التاريخية التي تغيير الوجه العام لمجتمعاتها وتنتشلها من واقعها، نحو أفق حضاري جديد، لذلك كان لولادة النبي محمد (ص) في شبه الجزيرة العربية بداية لانعطافة مفصلية في تاريخها لم تشهد مثلها منذ أن انبثقت للوجود كحيز جغرافي يضم في ثناياه مجتمع يعاني العزلة الحضارية والمعرفية، نتيجة طبيعة البيئة والمناخ القاسيين اللذان يشكلان الوجه العام لهذه المنطقة الفقيرة بمواردها، وطبيعة العلائق والعادات والأعراف السائدة فيها، لذلك تحاشت القوى الكبرى آنذاك والمتمثلة بالدولة الفارسية والإمبراطورية الرومانية من الاقتراب منها، أو محاولة خوض مغامرة غير مجدية على رمالها الجرداء ولهيب شمسها الحارقة، هذه العزلة فرضت على البنية النفسية لأناسها نمطية أخلاقية تذبذبت من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وأنتجت تركيبة سلوكية يمكن أن نصفها بالمشوهة جمعت المتناقضات..  فمن جهة نجد ( القسوة والغلظة، وغياب العدالة الإنسانية، وسيادة مبدأ القوة ، وسلب حقوق الآخرين، والعصبية القبلية العمياء، وشيوع مبدأ انصر أخاك ظالما أو مظلوما) ومن الجهة الأخرى نجد ( النخوة والكرم والإجارة ) ..وسبب هذا التناقض في السلوك هو، إن الإنسان هناك كان يدور ضمن فلك جاهلية دينية وثقافية وأيدلوجية بحاجة إلى عملية تصويب تاريخية عظيمة، وهذا الإصلاح لأيتم إلا عن طريق نبوة تحظى بالرعاية ألإلهية والسداد في كل خطواتها، لعظم المسؤولية المناط بها، وكذلك بحاجة إلى خلق ظروف موضوعية لوجود هذه النبوة، والتي قد تستغرق فترة زمنية تمتد لعقود طويلة، فكانت أولى هذه الخطوات المهمة التي مهدت لظهور الإسلام في الجزء الشمالي من شبه الجزيرة العربية هي.. سيطرة قبيلة قريش على مكة وحيازة شرف سدانة الكعبة المشرفة، وحدث هذا قبل البعثة النبوية بعقود طويلة حين حل قصي بن كلاب جد النبي (ص) ضيفا على قبيلة خزاعة أهل مكة الأوائل، وتقربه من زعيمها عمرو بن لحي وزواجه من ابنته، ومن ثم العمل على جمع قبيلة قريش من الشتات، وشراء سدانة الكعبة من الوريث الوحيد لعمرو بن لحي ابنه أبو غبشان، وبذلك انتقلت مكة والإشراف على الكعبة المشرفة إلى قبيلة قريش، بعد جلاء خزاعة عنها بعد هذه الحادثة.. والخطوة الثانية، قيام قريش بوضع جميع الأوثان والأصنام التي يقدسها عرب الجزيرة في جوف الكعبة حتى تجاوزت الثلاثمائة صنم ووثن، وتحويل مكة إلى مزار مقدس وقبلة تحج إليها  جميع القبائل العربية، وبذلك استحوذت قريش على الزعامة الدينية عند العرب، الخطوة الثالثة .. عقد اتفاقية (إيلاف) والتي ذكرت في القران الكريم باسم ( إيلاف قريش)، هذه المعاهدة التي أبرمتها قريش مع جميع القبائل القاطنة على طريق التجارة بينها وبين الشام و العراق واليمن، في رحلة الشتاء والصيف، وفق نظام سمي (بالأعشار)، أي تعطي قريش عشر واردات تجارتها لهذه القبائل مقابل أن توفر هذه القبائل الحماية لقوافلها، وبذلك أحكمت قريش قبضتها على التجارة في شبه الجزيرة العربية وأصبحت مكة مركزا تجاريا رئيسيا ومحط رحال القوافل من كل حدب وصوب، بعد أن أصبحت مركزا دينيا.. كل هذه الأحداث قد مهدت إلى ولادة النبي محمد (ص) ومن ثم بعثه نبيا انطلاقا من مكة التي أصبحت مركزا دينيا وتجاريا عند عرب الجاهلية،  إضافة إلى ولادته (ص) في عائلة تعد من اشرف بيوت العرب وأكرمها وأنبلها، فكان جده عبد المطلب من سادات العرب، حنفيا على ملة إبراهيم، كان يتحنث في  مغارات جبال مكة شهرا من كل عام، قبل أن يولد حفيده النبي محمد (ص) بعقود، ويصوم شهر رمضان على عادة الطائفة (الابيونية ) وهي طائفة مسيحية عربية، وهو أول من طاف حول الكعبة سبعة أشواط، وأول من نبش بئر زمزم واخرج مائه بعد اندثاره، وكان يضع الطعام على قمم جبال مكة لإطعام الطير، هذه الصفات الكريمة السامية حري بها أن تنتج النبوة العظيمة بعد أن تربى في حجرها النبي محمد (ص) ثمانية سنوات، وقد حمل أبو طالب الراعي الثاني للنبوة الكثير من صفات أبيه عبد المطلب.. كل هذه الظروف الموضوعية التي ذكرت مهدت وساهمت في ظهور النبوة في مكة المكرمة وحدوث عملية التغيير العظيمة في مجتمع الجزيرة العربية ومن ثم المنطقة بأسرها.

اتفق المسلمون جميعا على السنة والشهر اللذان ولد فيهما النبي  محمد (ص)، إلا أنهم اختلفوا في تحديد تاريخ يوم الولادة، فذهب الشيخ المفيد وابن طاووس في كتابه (إقبال الأعمال)، على أن ولادته المباركة حدثت في السابع عشر من ربيع الأول من عام الفيل، وأما الطبري في (تاريخ الأمم والملوك) وابن الأثير في كتابه (الكامل) فقد اتفقا على إن الولادة حدثت في الثاني عشر من ربيع الأول من نفس العام، كما قال ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية الجزء الثاني) .. (وهذا هو التاريخ المشهور عند جمهور المسلمين) .. وقد ذهبوا إلى الرأي القائل بان مولده الشريف كان يوم الاثنين حيث كان يصوم في هذا اليوم من كل أسبوع، كما في الحديث النبوي الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي قتادة، بقول النبي (ص)، (هذا يوم ولدت فيه) .. وأما الشيعة الامامية فيقولون إن مولده كان يوم الجمعة، ويذكر ألمجلسي في كتابه ( بحار الأنوار الجزء الخامس عشر ) تفاصيلها، (ولد صلى الله عليه وآله وسلم في يوم السابع عشرة من شهر ربيع الأول في عام الفيل، وانه ولد صلى الله عليه وآله وسلم عند طلوع الفجر من يوم الجمعة بعد خمس وخمسين يوما من هلاك أصحاب الفيل .. وذكر الطبري إن مولده صلى الله عليه وآله وسلم كان لاثنين وأربعين سنة من ملك انوشيروان، وهذا هو الصحيح، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ولدت في زمن الملك العادل انو شيروان بن قباد قاتل مزدك والزنادقة .. وكانت ولادته في داره المباركة بمكة، ثم وهبها النبي صلى الله عليه واله وسلم لعقيل بن أبي طالب.. وقد أورد البهيقي في (دلائل النبوة) والطبري في (تاريخ الأمم والملوك) عدة روايات عن الإعجاز الذي رافق هذه الولادة المباركة، ومنها انشقاق إيوان كسرى وانطفاء نار المجوس وغرق الكنائس المحيطة ببحيرة السماوة في العراق، لكن هذه الحوادث فيها كلام، ولم تثبت تاريخيا، ولم تذكر في تواريخ تلك الأمم، إضافة إلى إشكالية معرفة عرب الجزيرة بهذه الحوادث وقد وقعت على بعد مئات الأميال عنهم، ويبدو إن هذه الروايات من صنع خيال العقل البدوي القومي المتطرف الذي يحاول الانتقاص من الغير وتبرير أفعاله ضد الآخر بحوادث وروايات مفبركة ليس لها وجود، علما أن إثبات أو نفي مثل هكذا معجزات لا يعني شيئا أمام عظم النبوة وصاحبها.

أقيم أول احتفال بمولده المبارك في مصر سنة 362 هجرية في زمن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله رابع الخلفاء الفاطميين، الذي زحف بجيوشه من المغرب العربي إلى مصر للسيطرة عليها وإنهاء الحكم العباسي فيها بقيادة جوهر الصقلي، كما يذكر المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه (اتعاض الحنفاء بإخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء) .. لكن هذا الخليفة الفاطمي قد واجه محيط عدائي ملأه الريبة والبغض نتيجة للاختلاف العقائدي بين الحاكمين الجدد الذين ينتمون للمذهب الاسماعيلي نسبة إلى محمد بن إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق (ع)، الإمام السادس عند الشيعة الأمامية، وأهل مصر السنيوا المذهب .. فبحث هذا الخليفة عن نقاط مشتركة ومحطات التقاء تجمعه مع أهل هذا البلد وتذيب جبل الجليد المذهبي بينه وبين رعيته فتناول من التاريخ هذه المناسبة السعيدة التي يلتقي فيها المسلمون على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وأراد لها ان تكون عامل وحدة بين أفراد مجتمعه الجديد .فأقام الاحتفالات وبذخ الأموال وجعلها مناسبة لإطعام واكساء الفقراء وإطلاق سراح السجناء وغيرها من الأمور التي تترك طابع الارتياح والسعادة لدى الناس، وبقيت هذه المناسبة تقام لقرنين طيلة الحكم الفاطمي لمصر، وبعد أن اسقط الأيوبيين الحكم الفاطمي تبنوا هذا الاحتفال .. ويذكر السيوطي في كتابه (حسن المقصد في أعمال المولد)، إن أول من أقامه خارج مصر الملك مظهر الدين حاكم اربيل في القرن السادس الهجري ثم انتشر في أرجاء العالم الإسلامي إلى يومنا هذا.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب