إذا كانت الفلسفة بالتعبير الإغريقي هي حب الحكمة فما هي حكمة الحب كما يراها الفلاسفة ؟ وهل الحب فن يجب إتقان حرفيته كما يرى إريك فروم، أم هو شعور غريزي يمتلك ناصيته الإنسان البدائي بالقدر الذي يتمتع به الإنسان المعاصر ؟ ولماذا يكون الحب بالنسبة للرجل تجربةً يعقبها بأخرى في بحث لا نهائي ، بينما هو بالنسبة للمرأة العاطفة الأبقى والأكثر ثباتاً ؟.
في السمبوزيوم – وهو تجمع يتحاور فيه الفلاسفة والمثقفون الإغريق- تساءل سقراط عن ماهية الحب ، فاستهل الكاتب المسرحي الساخر أرستوفانس بسرد إسطورة قديمة تقول أن الإنسان كان على هيئة روحين بجسدين ملتصقين، يتحاوران ويتنادمان ويمارسان الجنس مع بعضهما ، وهذا ما أثار غيرة كبير الألهة زيوس وهو المعروف بهوسه بالنساء ، فشطر الإنسان إلى نصفين. ومنذ ذلك الحين والإنسان يبحث عن شطره الأخر في تجارب حب لا تنتهي. رغم غرابة تلك الاسطوره إلا أن دلالتها الرمزية ما زالت معاصرةً، فمعظمنا يعتقد أن الإنسان يبحث عمن يشاطره بعض المشتركات والميول النفسية والفكرية فيتخذه حبيباً. أما سقراط فيرى أن الحب هو توقٌ للجمال وليس للجميل ،فحبك لأخيك ليس حباً لشخصه، بل للجمال والقيم الخيرة المتمثلة في روح التضامن العائلي ودفء الأواصر الأسرية، وما يبدو ولهاً بفتاة حسناء هو بالحقيقة ولهٌ بالحسن الذي تجسد في شخصيتها، وليس ولهاً بها، فللإنسان توقٌ غريزي لعناق الجمال والخير المطلق ، ولما كان من المتعذر على المرء بلوغ الجمال المطلق الكامل، فإنه يمضي في رحلة بحث لا نهائية عن قيم الجمال في الطبيعة والأشياء والبشر.
لم يكتب سقراط حرفاً واحداً في حياته ، وقد نقل أفكاره إلينا تلميذه إفلاطون ، ولذا أطلق على تلك الصورة المثالية عن الحب تسمية ” الحب الأفلاطوني ” إشارةً إلى الحب الروحاني المنزه عن الجنس، إلا أن الكاتب الأمريكي جي كندي نبه في دراسة حديثة إلى أن ما نصفه بالحب الأفلاطوني هو بالحقيقة ليس إفلاطونياً ، فقد كان أفلاطون وقبله سقراط يروجان لأهمية الجنس والمثلية الجنسية بشرط عدم الإفراط.
ما نحمله من صورة مثالية تحت إسم الحب الأفلاطوني أجدر أن يوصف بها الحب العذري، فهو كصيغة دنيوية للحب الصوفي منزه عن الإتصال الجنسي، وفيه تتسامى ذات العاشق عبر معاناة الوجد والإشتياق لتصل ذروة اتقادها ألوجداني في عناق وتوحد مع ذات الحبيب. نشأت ظاهرة الحب العذري في العصر الأموي تحديداً عقب تحولات بنيوية في المجتمع والنظام السياسي. فقد كان الفرد أيام خلافة الإمام علي يحيا في ظل نظام شعبي، ومجتمع تسوده علاقات شبه مشاعية، يوفر فيه التكافل الإجتماعي قدراً كبيراً من الأمن الإجتماعي، والذي سيتلاشى مع تأسيس النظام الإمبراطوري الأموي وهيمنة الإقطاع على مقدرات المجتمع والدولة، فكان الحب العذري عالم الشاعر مرهف الحس، وهو عالم متخيل إفتراضي تستقر فيه روحه القلقة بعد أن تخلى عنها عالمها الحقيقي.
إذا كان الحب العذري باطنياً خالصاً منزهاً عن الجنس فإن شوبنهاور على عكس ذلك لا يرى في الحب من دافعٍ سوى غريزة الجنس والتناسل . ولفهم نظرية شوبنهاور في الحب يلزمنا أن نعرض ولو بشكل خاطف أسس فلسفته التشاؤمية . حسب شوبنهاور تحرك إرادة الحياة جميع الكائنات في صراعٍ من أجل البقاء، فهي تدفعك لتوفير مستلزمات الحياة وتحقيق الرغبات والتمتع بالملذات ، فما إن تتحقق حتى تتجدد رغبات جديدة، وهكذا فانت في صراعٍ لاينتهي وأرادة الحياة لا تتوقف، ولا حل إلا بالإنتحار الذي يتناقض هو الآخر مع إرادة الحياة فترفضه ، ولم يبق إلا حل مؤقت يتمثل في الإبداع والخلق الفني الذي يوفر هدأةً لإرادة الحياة عبر الإنفصال عن الواقع. الحب حسب شوبنهاور شعور غريزي تحركه الرغبة الجنسية كإحدى آليات إرادة الحياة ،فهي تقود الفرد إلى إنتقاء الأجمل والأفضل بقصد إشباع غرائزه ، إلا أنه بعمله هذا ودون وعي منه إنما يسهم في إنتاج جيل أجمل وأفضل مما يحفظ ديمومة ورقي فصيلة الإنسان.
يقودنا الحديث عن الفلسفة التشاؤمية إلى نيتشة الذي إستبدل إرادة الحياة بإرادة القوة، وخلص إلى أنها قد تلاشت لدى الإنسان، مما جعله غير قادر على الحب، بل غير قادر على الحياة الحقة. من الصعب رسم صورة واضحة ومنسجمة لرؤية نيتشة فكما قال كارل جاسبرز ” إن لم تجد تناقضين على الأقل في الصفحة الواحدة من كتابات نيتشة فاعلم أنك لم تقرأه بعناية “. يمكن تجاوز مواقفه العدوانية المعروفة من المرأة على إفتراض أنها تمثل ردود أفعال غاضبة لتجربة حبه الفاشلة ” أنت ذاهب للقاء إمرأة ، لا تنس السوط” {هكذا تكلم زرادشت } ” المرأة مخلوق مفترس همها الحبل والإنجاب” { العلم المرح}. كان مشروع نيتشة قائماً على أساس التشكيك بكل البنى الفكرية التي انتجتها الثقافة الأوروبية ، بما فيها منظومتها المعيارية والأخلاقية القائمة على ثنائيات الخير والشر ، الكراهية والحب، التضحية والأنانية، الغضب والحلم، الثأر والتسامح …ألخ ، وهي ثنائيات مزيفة كما يرى وقد كرستها الفلسفة والأديان عبر قرون حتى أصبحت مسلمات ايمانية لا يطالها السؤال، وأهم آليات فرضها عقدة الذنب والرقابة الذاتية، فمن يتصرف أو يفكر خارج مقاييس تلك القيم سيفقد شهادة حسن السلوك الممنوحة من قبل ” الجمع القطيعي ” أو يهلك في عذاب الضمير وعقدة الذنب. هكذا فقد الإنسان قدرته على التفكير والتعبير الحر بعفوية أحاسيسه ودوافعه الغريزية، فإن اعترت الفرد فورة غضب عليه أن يرتدي قناع الحلم والتروي، وإن إنتابته رغبة عارمة للإنتقام فرقيبه الذاتي يأمره أن يظهر الوجه المرائي المتسامح، ومن المؤكد أن وراء كل تضحية يختفي شعور مؤلم ومرارة لما فقده المضحي، وهو يخفي ذلك ألشعور ليستزيد من رصيد سمعته بين الجمع. ما زال الإنسان يحتفظ بالكثير من الغرائز الحيوانية ، إلا أن تلك القيم والأخلاقيات الجافة والثابته تفترض فيه كائناً مثالياً متجرداً من تلك النزعات ، فتفرض ما لا طاقة له عليه، وهذا ما يضطره للعيش تحت قناع صمم له منذ قرون، بينما يصارع عالمه الداخلي ويقمع أحاسيسه ونزعاته ويشعر بالم الضمير لوجودها، مع أنها تمثل جوهره الحقيقي. بسبب هذا القناع السميك فالإنسان غير قادر على الحب لأنه مزيف، السوبرمان هو الوحيد القادر على الحب، والسوبرمان هو مشروع نيتشة للإنسان القادم الذي سيتمرد على كل القيم والأخلاقيات ويرفض أي مرجعية أخلاقية ، فمرجعيته الوحيدة حريته الفردية وما تمليه أحاسيسه ونزعاته الغريزية دون املاءات أو أقنعة مزيفة. تلك الصورة الجنونية للحب تمثل العقلانية الحقيقية عند نيتشة ” في الحب هناك دائماً بعض الجنون ، ولكن في الجنون أيضاً بعض العقلانية “{هكذا تكلم زرادشت }. كما رأينا الحب عند نيتشة إنسلاخ عن الآخرين وقيمهم ” تسألني عن حب جيراني ؟ ، دعني أسكن أعلى الجبل وأحبهم من بعيد “، بينما يرى اريك فروم في الحب عكس ذلك تماماً فهو إندماج مع المجتمع وإتحاد مع الآخر.
الحب لدى اريك فروم فن، ومثل أي فن تلزمنا لإتقانه المعرفة والتمرس وبذل جهود مضنية وجادة. شيوع وهم الإعتقاد أن الحب ممارسة عفوية وأمر يسير انما ينشأ من الخلط بين أن “نقع” في الحب، وهي حالة مبتذلة ومؤقتة، وبين أن نكون في الحب وهي عملية بنائية دائمه. الحب في الحقيقة فن عسير، زادت من صعوبته هيمنة قيم السوق وحصار يومياتنا بحملات الدعاية والإعلان، حتى أصبح بحثنا عن الشريك الجذاب يخضع ألى ذات المقاييس في إنتقاء قطعة أثاث جذابة. يكشف اريك فروم في كتابه ” فن الحب ” كنزاً من التحليلات والتوجيهات العملية التي لا يتسع المقال لسردها، ولذا انصح القراء وخاصةً الشباب المقبلين على الحياة بقراءته، فهو دليلٌ عملي لإثراء تجاربهم العاطفية. الحب هو الجواب على اشكالية الوجود الإنساني، فما هي اشكالية الوجود الإنساني؟. الإنسان سليل مملكة الحيوان، إنفصل عنها وبدأ يبتعد عن الطبيعة مع تطور التكنولوجيا { ولو كان فروم حياً لأضاف أن العولمة الرأسمالية لم تبعد الإنسان عن الطبيعة فحسب ، بل وضعته في موقف العداء منها عبر إبادة الغابات، وتعريض الحيوانات للإنقراض، وتوسيع ثقب الأوزون، وتلويث الكوكب لأغراض ربحية }. رافق إنفصال الإنسان عن الطبيعة امتلاكه لملكة الوعي ، ويجد ذلك تعبيره الرمزي في إسطورة آدم وحواء، فقد طردا من الفردوس ” الطبيعة” بعد أن أكلا من شجرة المعرفة. الإنسان دون المخلوقات يعي وجوده كذات مستقلة ، وهو يعي وجود الأخرين من حوله، كما أنه يعي أن له ماضياً يبدأ بولادته التي لم تكن بمشيئته، وأن له مستقبلاً سيموت في نهايته رغم ارادته أيضاً،وهو يعلم أنه سيموت بين أحبته أو أنهم سيموتون أمام عينيه، ويعي أيضاً أنه أصغر من قطرةٍ في بحر هذا العالم الذي لا يأبه به بل عليه هو أن يذعن فيه إلى قوانين الطبيعة ويمتثل لقواعد والزامات المجتمع، وهو يعي إستحالة العودة والإتحاد مع الطبيعة كباقي الحيوانات، ولا عودة أيضاً إلى رحم الأم بعد أن إنفصل عن جسدها ليواجه عالماً غريباً عنه. كل هذا يجعله في عزلة داخل سجن لا يطاق، ولا حل أمامه لفك أسره سوى تحطيم جدران الغربة والإتحاد مع الآخرين. كان الإنسان البدائي يرتدي اقنعة الحيوانات ويعبدها ، ويعلق على رأسه ريش الطيور وأغصان الأشجار، فيمنحه ذلك شعوراً بالعودة إلى الطبيعة، كما أن الطقوس الدينية المتمثلة بالسكر والجنس الجماعي ماهي ألا حلول مؤقتة لتغييب الشعور بالعزلة، ولكونها تتم بشكل جماعي فهي تمنحه ألشعور بالإنصهار في الجماعة. ومن الحلول المؤقتة العبادة المفرطة والتفاني المبالغ به في العمل أو للوصول إلى هدف ، إلا أن الحب هو الإجابة الوحيدة لقهر عزلة الإنسان عبر الإتحاد بالآخر، إذ يلتقي الإثنان ويبدأ حائط الغربة بالتداعي تدريجياً كلما تداخل عالماهما واقتربا من بعضهما أكثر ، إلا أن اقصى درجات الإقتراب تكون عند اتحادهما وشعورهما بأنهما قد اصبحا واحداً مع انهما إثنان لكل منهما تفرده، وهذا هو أروع ما يمكن أن يشعر به الإنسان، إنه الحب ، أليست أسمى مراحل الحب الصوفي عندما تتحد ذات العاشق المتصوف مع ذات الله العليا ؟. وختاماً اتمنى للجميع أياماً تفترشها زهور الحب.