الحب الأول هو تلك التجربة الوليدة الأولى في الانجذاب والعيش مع الجنس الآخر, في علاقة يفترض أن يكون قوامها: الميل الوجداني للمحبوب, والإحساس بالارتباط الشديد به, والشوق والحنين إليه, والرغبة في الاقتراب الأبدي منه, والشعور بالعذاب والضياع والغربة في حالة البعد عنه. حتى كأن زخمه وحدة المشاعر التي ترافقه يترك لنا انطباعا أوليا بأنه قدرا غيبيا محتوما يجري خارج إطار سنة النمو البيولوجية والسيكولوجية والمعرفية والحضارية.
في السيكولوجية المعاصرة فأن الحب الأول لا يجري على نسق المسلسلات التلفزيونية أو قصائد الغزل والأفلام التي تزج به كمفهوم غامض غير مفهوم بيولوجيا وسيكولوجيا, وكأنه يحصل بإرادة ما ورائية ـ ألاهية . كما أن التشبث به ومحاولة إبقاءه حبا أولا وأخيرا دون فهم مبرراته ودوافع الانحياز إليه يضيف معاناة حقيقة غير مبررة لطرفي العلاقة, خارج إطار فهم مسيرته الإنمائية وطبيعته التجريبية الناشئة من الأولويات البدائية الإنمائية الداخلية ذات الصلة بالحاجة إليه كتجربة أولى !!!.
قد يولد الحب الأول وهو يحمل بذور فشله في رحم ولادته, حيث الحب الأول هنا كبداية لتجربة تراكمية يجري كما تجري صيرورة الأشياء في فحوى التراكمات الكمية في إطار تحولها إلى فعل نوعي في التجربة, وان حضور الحب بثلاثيته ( الألفة, والعاطفة, والقرار أو الالتزام ) هو الأهم في كل تجربة حب جديدة, دون التغني بآثار الماضي وتداعياته الناتجة من حداثة التجربة وانعكاساتها الأولى, فلكل تجربة خصوصيتها, وبالتالي كل تجربة هي أولى وخاصة بما تحمله من مستجدات !!!.
وقد وجد الحب الأول انعكاساته في التراث العالمي والعربي, من شعر و آداب وفنون مختلفة, ففي التراث العربي انقسم الناس في فهم الحب الأول, فمنهم من رآه هو الحب الأول والأخير ولا يأتي بعده حب بمنزلته, كما قال أبو تمام ( 188 هجرية ـ 231 ):
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى .. ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى… وحنينه أبدا لأول منزل
ولكن هناك فريق آخر يرى إن الحب الأول تجربة انقضت, وان الحب الحقيقي والواقعي للحبيب الآخر حيث يعيش المرء في كنفه ويشعر به, كما قال العلوي الأصبهاني ( المتوفى 322 هجرية ):
دع حب أول من كلفت بحبه …. ما الحب إلا للحبيب الآخر
ما قد تولى لا ارتجاع لطيبه … هل غائب اللذات مثل الحاضر
وقال ديك الجن ألحمصي ( 161 هجرية ـ 236 ):
أشرب على وجه الحبيب المقبل … وعلى الفم المتبسم المتقبل
شربا يذكر كل حب آخر… غض وينسى كل حب أول
نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى … كهوى جديد أو كوصل مقبل
كما يرى آخرون اختلاط المشاعر بين الإبقاء على الحب الأول وضرورات الحب الآخر, كما يقول الشاعر:
قلبي رهين بالهوى المقتبل … فالويل لي في الحب إن لم اعدل
أنا مبتلى ببليتين من الهوى … شوق إلى الثاني وذكر الأول
وخلاف ذلك ذهب البعض إلى أن الحبيب من تحبه الآن وليست فيه أول أو آخر, كما يقول الشاعر:
الحب للمحبوب ساعة حبه … ما الحب فيه لآخر ولأول
أما التراث العالمي فهو الآخر تناول تجارب الحب الأول باعتبارها حالات إنسانية قائمة على حقائق التجربة الأولى ودوافعها السيكولوجية والاجتماعية, إلى أن الزخم الأكبر أعطي لطاقة الحب والحاجة إليه لظروف البقاء والاستمرار, بغض النظر عن ترتيبه الشكلي, إن كان حب أول أو ثاني, وهكذا أنتج الأدب العالمي أشهر الروايات والقصص الرومانسية في الحب التي جمعت بين النزعات المثالية والحسية والواقعية, والتي لا تزال خالدة اليوم, ويستعين بمادتها في الأفلام العالمية, والتي عبرت عن الحب باعتباره حقيقة وجودية, وليست فقط تجربة فردية محدودة النطاق والتعبير أو محصورة بين فردين. ومن ابرز هذه الأعمال العالمية, على سبيل المثال لا الحصر, هي:
رواية ( كبرياء وتحامل ) لجين أوستين, ورائعة الأدب الروسي ( أنا كارنينا ) لليو تولستوي, ورواية ( جين إبر ) لتشارلوت برونت, وقصة ( آوت لاندر ) لديانا جيبلدون, ورواية ( قصة حب ـ لوف ستوري ) لأيريش سيجال, وقصة ( المذكرة ـ نوتي بوك ) للكاتب الأمريكي نيكولاس سباركس, وقصة ( ملحوظة: أنا احبك ) للكاتبة الايرلندية سيسيليا أهيرن, وقصة ( مون ـ سباينر ) لماري ستيوارت, وقصة ( شيء مستعار ) لإيميلي جيفن وغيرها من القصص والروايات العالمية التي يصعب حصرها في هذا المقام.
وقد تحدث الكثير من الفلاسفة والشعراء والأدباء العالميين عن الحب باعتباره أولا حاجة إنسانية وطاقة داخلية فياضة, دون النظر إلى ترتيبته في سلم تجارب الحب الشخصية, فقد أكد الشاعر والفيلسوف فولتير ( 1694 ـ 1778 ) بقوله : ” الحب من دون سائر العواطف أشدها فهو يهاجم في آن واحد الرأس والقلب والحواس “, وكذلك أكد بلزاك ( 1799 ـ 1850 ) الروائي والكاتب المسرحي ومؤسس الواقعية في الأدب الأوربي: ” أن الحب كالموت لا يعترف بالطبقات ولا بالثروة ولا بالحياة ” في معرض فهمه للحب كحاجة إنسانية خارج إطار الانتماءات الأخرى الضيقة, أما الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الألماني غوتة ( 1749 ـ 1832 ) فقد قال في سياق التضحية في الحب: ” الحب يكون أقوى عندما يعطي أكثر مما يأخذ “, ولعل في قول نزار القباني ( 1923 ـ 1998 ) عن لانهائية الحب وتأصله في الذات الإنسانية أجمل ما عبر عنه بكلامه: ” الحب ليس رواية شرقية بختامها يتزوج الأبطال لكنه الإبحار دون سفينة وشعورنا أن الوصول محال “, إلى جانب الكثير من الفلاسفة والأدباء الذين قالوا في الحب وأهميته, ولم يتحدثوا عن قطعية ووحدانية الحب الأول, والذين يصعب حصرهم في هذا الحديث المتواضع عن الحب !!!!.
وتشير اغلب الدراسات الاجتماعية الميدانية والمقابلات الاستطلاعية إلى أن فرص الحب الأول في النجاح والاستمرار هي فرص محدودة جدا, وينتهي اغلبها بالفشل رغم بقائه لصيقا في الذاكرة الوجدانية والعاطفية للفرد, كما يرى فيه آخرون انه تجربة لابد منها وتمرس مطلوب يغني الشخصية لاحقا في ممارسة الحب بشكل أفضل, والبعض الآخر لا يعترف أصلا بضرورات الحب الأول أو بالحب عموما قبل الزواج, وأن بإمكان الزواج ينتج الحب الحقيقي خلال مسيرته, وهناك من لا يعترف بما يسمى بالحب الأول وهي مجرد تسمية لسبق زمني, وان كل حب هو أول بخصوصيته وطبيعته المميزة عن سابقه مادام مستمرا وحاضرا ويحمل مبررات البقاء, فإذا ما انتهى انتهت معه تسمياته بأول أو ثاني, وهناك فريق مغاير لا يحبذ أصلا استخدام كلمة ” حب ” في وصف التجربة الأولى ويعتبره مجرد إعجاب عام ولا تنطبق عليه تسمية الحب الأول, فهو كعابر سبيل يطرق الباب في لحظة ما ثم يختفي سريعا رغم بقاء آثاره الذاكروية. وتشير الكثير من الملاحظات أن الأنثى أكثر تأثرا من الذكر بما يقع فيه من آثار ايجابية أو فشل التجربة, وهو ناتج من أن الأنثى أكثر تعقلا في الحب وأقل رومانسية من الرجل, ويرتبط الحب لديها بما فيه الأول بأهداف مستقبلية ورغبة في الاستقرار والزواج ( وخاصة في البيئات الثقافية والاجتماعية والحضارية التي يكون الحب فيها محظورا بشكل عام, وبالأخص على المرأة ). وعلى العموم هناك ضبابية في إدراك أسباب الحب الأول ومبرراته ودافعيته السيكولوجية وأسباب فشله !!!!.
من الناحية السيكولوجية يقع الحب الأول في معظمه في فترة إنمائية حرجة من عمر الإنسان وهي فترة المراهقة, وهي الفترة التي ينتقل فيها الفرد من طفولة هادئة إنمائيا إلى بداية فترة مشوبة بالتغيرات الهرمونية والجسمية وبداية تشكل ملامح النضج الجنسي في بداية هذه المرحلة, وبالتالي فأن الاحتفاظ أو المطالبة بتوازن ثابت في هذه المرحلة هو أمر غير طبيعي. لا يوجد اتفاق ثابت على تحديد متفق عليه بصدد الفترة الزمنية التي يشغلها دور المراهقة, وعلى العموم فان معدل سن هذه الفترة يمتد من الثانية عشر وحتى العشرين, غير إن هنالك من يعتبر هذا السن بين العاشرة والحادية والعشرين في الفتاة وبين الثانية عشر والسادسة والعشرين في الفتى, وذلك نظرا لان الفتاة تصل البلوغ قبل الفتى, كما أن نضجها العاطفي يكتمل قبل الفتى. وإذا اختلف الباحثون في طول الفترة وبدايتها ونهايتها, فأنهم يتفقون تماما بأن سن البداية يطابق سن البلوغ. وتتأثر بداية البلوغ ونهايته بعوامل كثير, كالثقافة والبيئة الاجتماعية المحفزة, كما يتأثر بالتغذية والموقع الجغرافي, ويختلف من حضارة إلى أخرى وبموقف المجتمع من الممارسات الجنسية ومستوى التسامح في التعبير عنها, ولذلك نجد مثلا النضج المبكر في المناطق الحارة, والمتأخر في المناطق الباردة, وكذلك طول فترة المراهقة في البلدان المتقدمة, وانحسارها في البلدان المتخلفة حيث ينتقل فيها الفرد بسرعة من الطفولة إلى الرجولة وتحمل الأعباء الاجتماعية والاقتصادية مبكرا !!!!.
وفترة المراهقة هذه هي ليست فترة واحدة بمواصفات متشابهة تماما, لذا ارتأى علماء النفس تقسيمها إلى مراحل أو حلقات داخلية من النمو متصلة مع بعضها البعض,. وابرز هذه التقسيمات هو التقسيم الثلاثي لهذه المرحلة, هو: المرحلة الأولى, مرحلة البلوغ أو بداية المراهقة باعتبارها عملية بيولوجية ـ هرمونية وما يرتبط بها من تغيرات عاطفية, ويكون الدافع الجنسي هنا طاقة بالغة القوة, تعبر عن نفسها بشعور بالضيق والاحتقانات ومحاولات التفريغ بأي شكل من الأشكال؛ ومرحلة المراهقة المتوسطة, ويقع هذا الدور بين مرحلة المراهقة التي تتصف بالتحولات المفاجئة والسريعة في النمو الجنسي والجسمي, وبين المرحلة النهائية من المراهقة التي يقف فيها المراهق أو المراهقة على مشارف الرجولة أو الأنوثة وعتباتها, ويمتد هذا الدور عادة مابين الخامسة عشر والثامنة عشر, وهو لا يختلف عن الدور الذي قبله أو الذي يليه إلا من حيث تأكيد أو غلبة بعض الدوافع المحركة للسلوك أو العاطفة, ومن الناحية الجنسية يشتد اهتمام المراهق نحو هدف من الجنس الآخر, سواء كان ذلك بالاهتمام المباشر أو بالخيال والتصور؛ أما المرحلة الثالثة فهي المراهقة المتأخرة والتي تقع بين سن السابعة عشرة وحتى تحمل الفرد المسؤولية الحياتية, و تتسم هذه المرحلة بظهور قدرة جديدة وعنيفة من الرغبة الجنسية, وتتبلور المعالم الأساسية التي ستميز المراهق في رجولة أو أنوثة المستقبل من حيث النضوج العاطفي والنمو في مجال الدوافع الجنسية الذي ينعكس في المقدرة على تجاوز الصراعات الجنسية السابقة واستبدالها بتجارب جنسية ناضجة وطبيعية, ويظهر هنا بشكل اكبر وأكثر تنظيما من المراحل السابقة الحاجة التي تأكيد الهوية الشخصية أو الذاتية !!!!.
وتشكل عملية تشكيل الهوية الشخصية للمراهق, وخاصة في المرحلتين الثانية والثالثة من المراهقة هاجس لا ينقطع, رغم بدايتها المبكرة في حياة الطفل, إلا إنها تأخذ طابع أكثر وضوحا في فترة المراهقة وأكثر تشددا في تأكيد ” أنا “, حيث يشعر المراهق أو المراهقة أن البيت والعلاقات الأسرية أصبحت ثقلا لا يطاق, ومن هنا تنشأ حالات التمرد وعدم الاستجابة للضغوط الأسرية, سواء في مجتمعاتنا أم المجتمعات الغربية, باختلاف مظاهر التعبير. وتشكل عملية الاندفاع لإقامة العلاقات مع الجنس الآخر ارتباطا بالنمو الجنسي, احد مظاهر التعبير عن الاستقلالية والتمرد على البيئة المحيطة زائدا الحاجة البيولوجية لإقامة هذه العلاقات في ضوء الإلحاح المتزايد للدافع الجنسي في إشباعه والبحث عن منافذ للتفريغ حسب ما تتيحه الثقافات المختلفة وحدودها المتاحة لذلك !!!!.
ومن هنا ينشأ الحب الأول ضمن دائرة صراع بين إثبات الذات بأي ثمن وضمن اندفاعات الحاجة البيولوجية. ومن هنا ايضا تنشأ صعوبة الإطلاق عليه “حبا ” في إطار مكونات الحب الثلاث: ( الألفة, والعاطفة, والقرار أو الالتزام ), فهو ينشأ مركزا على العاطفة البحتة” أي الارتباط بالآخر جنسيا وجسديا ” ومفرغا أو ضعيفا من عنصري الألفة, والقرار والالتزام “, وخاصة في المرحلة الأولى والثانية من المراهقة. أما في المرحلة الثالثة من المراهقة فقد يكون مشبعا بقدر ما من عوامل الألفة, والقرار والالتزام, إلا أن كلا المكونين يقعان تحت تأثير إرهاصات الدافع الجنسي, وبالتالي هو الآخر مهدد بمقدار ما من الفشل. وهكذا يقع ما يسمى ” بالحب الأول ” ضمن دائرة التجريب واكتشاف الدور خارج إطار الحاجة إليه,غير مشبعا بعوامل الحب الأنفة الذكر. وهكذا يولد الحب الأول مهددا بالفشل قبل مخاض ولادته. أما حالات النجاح فيجري الإحساس بها على قدر تشبعها بعوامل الحب الثلاث !!!!!.