18 ديسمبر، 2024 4:18 م

التيه في دنيا الحب بلا هدف يختلف تماماً عن الواقع الفعلي المعيش، اختيار شريك الحياة لعمر قادم أمر بالغ الأهمية لا ينبغي التعامل معه بقوانين الحب التي تشبه الجواد الجامح وإغفال نداء العقل الواعي.

ما هو التكافؤ المطلوب بين الزوجين وأي تكافؤ يرتضيه المجتمع والأهل والأصدقاء، هل هو التكافؤ الاجتماعي بمعنى أن يتقدم الخاطب إلى أسرة من نفس مستواه العائلي والقبلي والعشائري ولا يحيد عنه في المجتمعات العربية القبلية، أم تكافؤ المال في المجتمعات المدنية فلا يضع نصب عينيه غير “ثروة” العروس، وبالطبع لا يوافق أهلها إلا على من يرتضون “ثروته ورأس ماله”، أم توافق فكري، وعقلي، وثقافي، ونفسي، تلاقي روحين ارتضيا العيش سوياً في كل الأحوال وكافة الظروف.

ارتضيا بقبول كلّ منهما للطرف الآخر كليا، جسدياً ونفسياً وعقليا، ارتباط قلوب وليس ارتباط مصالح. ولكن تظل لكل أسرة آليـة تفكير وأيديولوجيا مختلفة في التعـاطي مع مثل هذه القرارات المصيرية يترتب عليها اندماج بين عائلتين لا بد أن يمتزجا في بوتقة اجتماعية واحدة. حاولت زميلتي الصحافية إثناء عقل ابنتها المراهقة عن الارتباط بزميلها الجامعي الساكن بإحدى المناطق الشعبية الفقيرة، فلم يشفع له تفوقـه الدراسي ولا عشقه المجنـون للفتاة، ولكن سبقته المقارنة بين عائلته الفقيرة المكونة من أب عامل حرفي مكافح، وأم ربة منزل لا تعرف ولا تهتم بأسعار العملة ومعضلات الاقتصاد، بقدر اهتمامها بأسعار “الطماطم”، وأخوات إناث أكبرهن طفلة.

وأسرة الفتاة المكونة من أب أستاذ قانون بالجامعة وأم صحافية، وأخ طبيب جراح، وفيلا فارهة في إحدى المدن الجديدة، تلك المعطيات لم تكن أبداً لمصلحة الفتى ولم تصب في كفته لترجحها مطلقاً.

فشلت الأم في إقناع ابنتها بما أطلقت عليه عدم تكافؤ، وكذلك لم تتقبل الفتاة تلك الفكرة ذات الطرف المادي البحت، لم يطربها الحديث عن حبيبها بصيغة استنكارية وأسئلة من نوعية: من يكون؟ وما هى عائلته؟ هل سيوفر لك مستوى معيشيا مساويا لما أنت عليه الآن؟ وكذلك تاهت كلمات الفتاة من عينة سنبني بيتنا بالحب والعرق، طوبة ذهب وطوبة فضة، اعتبرتها الأم مهاترات وكلام أفلام لا يغني ولا يسمن من جوع.

استعانت بي لإقناع الفتاة بما أنكره أنا شخصياً، ولكن يبدو أن مقتضيات الأمومة ومتطلباتها لها فرضيات تختلف عما كنا نؤمن به في مرحلة الشباب، كنا ننادي بالحب والاستمتاع به حد الثمالة، التيه في دنيا الحب بلا هدف يختلف تماماً عن الواقع الفعلي المعيش، اختيار شريك الحياة لعمر قادم أمر بالغ الأهمية لا ينبغي التعامل معه بقوانين الحب التي تشبه الجواد الجامح وإغفال نداء العقل الواعي.

لساعتين ظللت أتحدث مع الفتاة بصوت أحرص بصعوبة أن يظل هادئاً رصيناً، كلما خانتني نبراته علواً أجبرتها على الانخفاض ثانية والعودة إلى هدوئها، استفزتني الفتاة أكثر من مرة كطفلة متشبثة بلعبة جديدة، مناقشات عقيمة مع عقل متحيز لآرائه ومنحاز لحبه فقط. في ما يشبه رش الماء على وجه النائم اعتدلت الفتاة في جلستها موجهة حديثها إليّ إلى أمها، متسائلة ومجيبة عن أسئلتها في آن، قائلة: هل أنتما من تدافعان عن الفقراء والمهمشين في كتاباتكما وتحقيقاتكما الصحافية، أم أن الكتابة بعيدة عن قدسية البيت واسم العائلة من الكلام المباح؟ ولكن أن يقفز أحد هؤلاء المهمشين إلى أسوار مدينتكما فهذا هو القبح والمحظور بعينه.

بعين الإنصاف رأيتني وزميلتي متناقضتين بالفعل، إذ نكتب شيئاً ونحاول إقناع الآخرين به، وتسويقه، ثم نمارس في حياتنا الشخصية طقوساً مغايرة لما ندعو إليه، نختلف مع أنفسنا في الخفاء، نتشاجر معها، نمارس انقسام أفكارنا وانفصامها عن واقعنا.

حقاً ما نطقت به الفتاة، فإن كنا نتحدث عن الحب علينا دعمه بكل قوتنا والتضحية بأفكار بالية عن التكافؤ المادي والوجاهة الاجتماعية والاكتفاء بتقييم الشخص لذاته وعلمه وثقافته، وما قدمه هو لمجاله ومجتمعه.
نقلا عن العرب