19 ديسمبر، 2024 12:12 ص

الحالة السياسية

الحالة السياسية

(4)
تمتلك الدولة من الأجهزة ما يقدرها على تحديد هويتها و طبيعة حياة شعبها ، و لم تعد السلطة تقتصر على وظيفة الإدارة بل تجاوزتها إلى مديات لا حدود لها ، و في هذا الشأن يضرب ستيفن دي تانسي مؤلف كتاب ( علم السياسة ؛ الأسس ) مثال مميز سنطرحه لأهميته في ما نريد الحديث عنه في هذه السلسلة  : (افترض انك في الخامسة عشر من عمرك و تعيش في المملكة المتحدة ، و تعمل مؤقتا في مطعم ماكدونالدز ، و تامل أن تجد لنفسك مكانا في الجامعة في الخريف ، ثم تصحو ذات يوم لتجد ان الحكومة ( برلمانية بكل تأكيد ) سنّت قانوناً يقضي بتحويل التوقيت المحلي 6:33 ( طبقا لخطوط الطول ) إلى 7:30 و حين تدير المذياع على محطة محلية ( حصلت على حق الأمتياز من منظمة حكومية ، و تستمع إلى النشرة الجوية من مكتب الأرصاد الذي تموله الحكومة ، و بعد أن تستمع إلى أغانٍ عديدة على الاسطوانات المضغوطة ( تدفع محطة الأذاعة للمؤلفين و المغنين مقابل الحقوق الفكرية بمقتضى القانون ) ، ثم تنتزع نفسك من الفراش ( المصنوع بموجب القانون من مواد غير قابلة للاشتعال ) ، لتتناول فطورك من رقائق الذرة ( حيث قائمة المكونات مذكورة على العلبة بموجب قانون آخر ) و أما إذا ما ما أقدمت بتصرف لا يتسم بالحكمة و أشعلت سيجارة ، فأن الحكومة و الأتحاد الاوربي يصران على وضع تحذير صحي على العلبة ، و تحصل هذه الحكومات مقابل ذلك على مبالغ طائلة في شكل ضرائب .
و من دون الدخول في تفاصيل الدقيقة ليومك ، و من الواضح أنك تكاد لا تمضي دقيقة واحدة في يومك إلا و للحكومة تأثيرها فيك بهذا الشكل أو ذاك ( نوعية الهواء ، و قوانين المرور ، و قوانين التوظيف ؛ و لك أن تكمل بقية اللائحة بنفسك )
لا شك في أن القضايا الأكبر تتأثر بالطريقة ذاتها ؛ هل يمكنك تحمل نفقات الجامعة ؟ ما هي المنح و القروض المتاحة لك أو الرسوم المستحقة وفقا لسياسة الحكومة  ؟ و كم عدد المقاعد التي تمولها الحكومة في الجامعة ؟ و كم عدد الطلاب الآخرين الذين تم تعليمهم في نظام التعليم الحكومي حتى مستوى الجامعة ؟ و من جهة أخرى ، اذا أفترضنا أنك غير قادر على دخول الجامعة ، فإن حظوظك للحصول على وظيفة دائمة ستعتمد على إدارة الحكمة للأقتصاد ……  ) هذا المثال الممتع يضيء حجم القدرة للسلطات في تحديد طبيعة الشعوب ، و قديما قيل : ( الناس على دين ملوكهم ) ؛ و من هنا نعود إلى موضوع تشريع القوانين و بناء المؤسسات و الوظائف استنادا إلى هذه القدرة ، إلا أن بعدا يتضمن الأشارة إلى ( الحالة السياسية ) جدير بالاهتمام في هذا السياق ، و الحالة السياسية هنا تعني أن الجماعات و الجهات والأحزاب السياسية في كل بلد تتحرك وسط حالة تحددها وفقا للمصلحة ، و هنا يدور الصراع بين المصالح العليا و المصالح الفئوية ، فمثلا في العراق ما هي الحالة السياسية للجماعات السياسية ؟

الأطراف السياسية التي تشكل السلطة التشريعية ( مجلس النواب ) و السلطة التنفيذية بمؤسساتها كافة ، هي عبارة عن جبهات أو تحالفات تتموضع في العناوين الثلاث ( القومية ( التحالف الكردستاني ) الدينية المذهبية ( الشيعية و السنية ) أي أن الحالة للواقع السياسي العراقي هي هذه العناوين ، و بهذا يتشكل الوعي الشعبي للناس على هذا الأساس ( شيعة ، سنة ، أكراد ) و تتحرك الاعمال كذلك وفق هذا المنطق ، و مؤكدا أن هذه العناوين لإنها أخرجت من فضائها الثقافي إلى السياسي فلن تبقى كعناوين للتنوع المجتمعي، بل أساس الأختلاف و الخلاف و الصراع ، و هذا ما حصل بالفعل ؛ ما يهمنا كما قلنا في المقال السابق ( التشريع3) هو كيف يمكن أن تسفيد السلطتين التشريعية و التنفيذية من تجربة السلطة القضائية في هذا المجال ؟ أي البناء و الوظيفة ؛ فضلا عن التحديات التي تواجه منطق الحل ، و هذا ما سنتحدث عنه في الحلقة القادمة