18 ديسمبر، 2024 8:37 م

الحاكم والمثقف المحكوم

الحاكم والمثقف المحكوم

اعتدنا أن نرى في معظم البلدان التي يطيب لبعضهم أن يسميها بلدان العلم الثالث والتي تعتبر الأقل تحضرا من بلدان العالم الأول إن العلاقة بين الحكومة والمواطن متشنجة مبنية على أساس الحاكم بأمره الأوحد مع المحكوم بالقوة المغلوب على أمره رغما عنه وإذا كانت كل دول العالم قد بنت من بين منشاتها سجون لإيداع المجرمين من القتلة والسراق والخارجين على القانون فان السجون في البلدان المعنية في كلامنا قد أضافت إليها المعارضين للنظام السياسي الحاكم فيها وإذا كانت دول العالم الأول المتحضرة كما تدعي تعمل على تنمية الثقافة والعلوم وتنشر مفاهيم تحترم حرية الإنسان وتطوره بل وحتى الحيوان الذي أسست جمعيات للرفق به وحتى مع الإنسان المسيء الخارج على القانون فإنها تحترم فيه إنسانيته فان الجانب الآخر على العكس من هذا تماما فلا تهتم لتنمية الثقافة البشرية وليس لديها ما تحترم به حقوق الإنسان وهذا ببساطة يعود إلى فهم المسئول الأول لواجباته التي يعمل على تنفذها وطريقة وصوله إلى الحكم ففي البلدان المتقدمة يفهم المسئول في الموقع القيادي المتقدم انه كأي موظف له فترة زمنية محددة تنتهي مهمته بانتهائها ليترك المجال لغيره ليضيف الإبداع في الحكم وانه يفهم انه يسعى جادا ليسجل اسمه في تاريخ بلاده إيجابا ويتحاشى أن يذكر فيه سلبا وحسب ما قدمه لبلاده وقد يحال إلى المحاكم إذا خالف الأنظمة والقوانين وعمل بغير ما يقره الدستور وقد حصل هذا بالفعل مع أكثر من شخصية سياسية حكمت في أوربا بينما في دولنا فانه يؤسس لإمبراطوريته العائلية الخاصة كاستنساخ للحكم الملكي يورثه لمن يراه كما حصل في سوريا لذلك فهو يحتاج إلى شعب خانع ومواطن كل همه أن يقضي يومه بسلام بانتظار غد يشبه الأمس إلى حد بعيد ومناقشته لأي أمر عام يعتبر خرقا للدستور وكفرا بالحاكم يستحق عليه أقسى العقوبات ولذلك فالحاكم يخاف من شعبه ولا يستطيع بل يستحيل أن يترك كرسيه بإرادته لأنه مخطئ ومسيء في كل شيء إبتداءا من طريقة وصوله إلى الموقع الأول وما يرافقها من قتل وتشريد تحت شعار الثورة والانقلاب وأثناء مسيرته في الحكم فهو ينهج بما يراه والدستور والقوانين لا تنطبق عليه وإنما وضعت للعامة من أبناء شعبه وفقا لرؤيته وإذا تطور أسلوب الحكم وصار أكثر جماعية ويخضع للمشورة فانه يتوسع إلى الحزب الذي ينتمي إليه وقد يكون هو من أسسه وأيضا ليحتمي به عند الضرورة وبطبيعة الحال يكون من حاشيته ومستشاريه وهم جميعا لا يخرجون عن طوعه وإرادته .

لذلك فنحن نجد أنفسنا أمام حالتين تسعى لتأسيس الأحزاب وللمقارنة فالأولى في البلدان المتقدمة التي تعمل وفق نظم حكم تشكل الديمقراطية فيها منهج عمل يتعاون فيها الجميع لخير المجتمع وبنائه وتطوره وان تقاسم الأدوار فيه لا يعني أكثر من تقاسم الواجبات وبالنتيجة يعمل الجميع بإخلاص إرضاءا للجميع دون خوف أو إكراه وحتى في تنافسهم يكون على من يقدم أفضل طريقة وبرنامج عمل لخدمة الشعب مقابل أحزاب في البلدان التي يسمونها نامية يخضع فيها الجميع إلى إرادة القائد ولا يمثل فيها الحزب إلا قاعدة لحماية المسئول من شعبه لأنه دائما يرى نفسه على صواب وكل شعبه على خطأ وغير مطلوب منه إلا السمع والطاعة وإلا فأهون جزاء بحقه يكون زجه في السجن كأي مجرم قاتل أو سارق وفق مادة قضائية جاهزة وطبعا هذا لا يعني إن الشعب خالي من النخب المثقفة والواعية والتي تطمح إلى بناء حكم ديمقراطي لكنها مقيدة بمبادئها ولا تستطيع الإعلان عن نفسها لأنها لا تؤمن بالحكم بالقوة مثلا إضافة إلى أنها لا تملك القوة التي تحميها من بطش الحاكم المستبد ولا تسعى لامتلاك السلاح لحماية نفسها فصارت هدفا سهلا وهي بلا شك فضلت تنمية قدراتها الثقافية الذاتية النظرية وانزوت تراقب الوضع بهدوء تنتظر الفرصة التي ربما لن تأتي ابد وكإشارة فقط لهذه الحالة فان الصادق المهدي مثلا في السودان أسس تجربة لنظام حكم ديمقراطي فريدة تنهي مشاكل البلاد وأيقن انه نجح في مهمته لكن سلفه تمسك بالكرسي والغي كل جهوده وها هي النتيجة أمام أعيننا بلد مقسم إلى السودان الأم وجنوب السودان واضطرابات وصراعات لأتفه الأسباب تسيل لها الدماء .

إن من المفارقات المضحكة المبكية في بلدان العالم هذه واخص منها المنطقة العربية والإسلامية أكثر من غيرها على مر تاريخها الطويل شاركت البشرية في صناعة تاريخ مشرف يعني بحرية الإنسان وحقوقه وناسها أول من نظم العلاقة بين أفراد الشعب الواحد من جهة وبين الحاكم والمحكوم من جهة ثانية وأرضها كانت مهبط للوحي ومنها انتشرت الأديان السماوية ومعلوم ما تحمل بين ثناياها من تعاليم عظيمة معرفة لا داعي للخوض فيها ناهيك عن علمائها الذي أسسوا لنظم متطورة معتمدة اليوم في بلدان العالم المتقدمة ولازالت لحد الآن رافد بشري مهم يستند إليهم والى خبراتهم ونظرياتهم كل العالم في مختلف المجالات وليس في مجال القانون وحقوق الإنسان حصرا ولكنهم عجزوا عن إقرارها في أمتهم بسبب طبيعة أنظمة الحكم التي تسيطر على شعوبها وبسبب هيمنة القوى العالمية الكبرى عليها لأنها كانت ولا زالت تمثل العقدة المهمة في حلقة التواصل بين قارات العالم القديم وحتى الحديث وبسبب الخيرات الهائلة التي احتوت عليها أراضيها وفي بواطنها حيث جعلت منها مطمع للقوى العالمية تتسابق في الهيمنة عليها لاستثمارها لصالحها قبل أبنائها وعلى حسابهم وعليه فان من واجب الشريحة الواعية الحركة الدقيقة لتوعية المواطن واستنهاض همته لإصلاح الأوضاع في بلدانهم وان ما يؤلم أكثر إن منطقتنا في الأغلب الأعم صارت طاردة لكل العقول المفكرة والنيرة كما تطرد الأيدي العاملة وبنفس طريقة هدر الثروات وأصبحت مركز استقطاب ونشاط لعصابات الجريمة المنظمة أمثال حثالات داعش ومن لف لفهم لتدمر الدلالات والشواخص التاريخية التي تحكي عن عظمتها.