ما زالت آراؤنا السياسية تتوزع بين مرحلتين, رأي يرى النظام السابق (نظام ما قبل 2003) هو الأفضل, والأحسن, والأعمق في توجهاته الوطنية, والأكثر نجاحاً في إدارة البلاد, والبناء, والتخطيط, والدفاع عن الوطن, والاهتمام بالمواطن.
ورأي آخر يرى أن نظام ما بعد 2003 هو الأفضل, فهو النظام الديمقراطي المنتخب من قبل الشعب والمدعوم بصوت المقترعين, والقريب من المواطنين, المحقق لأمانيهم, العامل لتحسين ظروف معيشتهم, والمدافع عنهم رغم الهجمات المستمرة, مع أن الرأي الثاني أظهر بعض امتعاض من الأخطاء السياسية والإدارية والخدمية والاقتصادية, ولكنه رأي لا يحبذ الرجوع إلى ما قبل التغيير الذي أحدثه التدخل الأمريكي.
لو بحثنا عن رأي ثالث لوجدناه بلا لون محدد, وبلا معالم واضحة, ولا تستند رؤيته إلى مقارنة دقيقة, واقعية, فلا تزال المقارنة تراوح بين النظام السابق, والنظام اللاحق, ونقطة الفصل بينهما عام 2003, أما النظام الثالث فهو من التأملات والرجاءات والأماني, ولعلها أماني ضالة.
لست أعتقد بأن المواطن المثقف سيجد تقييماً منصفاً عند السياسيين , أو طرحاً تصورياً دقيقاً للنظام الثالث , أو رأينا صحيحاً عند السياسي الديمقراطي بخصوص النظام الشمولي , أو رأيا حياديا عن السياسي الشمولي يصنف به النظام الديمقراطي , وأنا أقول توضيحاً: النظام الديمقراطي, والنظام الشمولي, وصفين يفرزان نظاما عن نظام , حمل كل منهما وصفه واشتهر به , ولسنا في معرض الحديث عن مطابقة الوصف للموصوف , وما يعنينا في هذه السطور هو البحث عن نظام ثالث نظام، يأخذ أوسمة كثيرة في مجال الانجازات, الانجازات الواضحة , ويتفوق تفوقاً ملحوظاً على الأنظمة التي حكمت بلادنا, نظام ناجح لا يترك مجالاً لعقد مقارنة بينه وبين ما سبقه, نظام متميز , نظام يقيم البناء بجدية ومثابرة وتسارع ممنهج ضمن برامج نوعية تم التخطيط لها بمواصفات العالم المتقدم , نظام يتابع بدقة وباستمرار نفسية المجتمع , وثقافته , فيُنتج قوانين, وخطابا سياسيا , وتوجيهات , ترفع من الايجابية والوعي والتحضر في دواخل هذه النفسية , التي عانت من الانهيار المتواصل , والدول المنهارة نفسياً تجد صعوبة بالغة في بناء شعوبها , ومؤسساتها , بل هي عاجزة تماماً عن تحقيق هكذا منجز .
إن الآراء التي تراوح في مقارناتها ومفاضلاتها بين النظامين الذين يفصل بينهما عام 2003 , ستبقى آراء انفعالية , متطرفة ( انحيازية ) ولن تنفع كأساس متزن ودقيق للتقييم , ولن تعطينا مقارنة نخرج منها بنتيجة تفاضلية نطمئن من خلالها إلى اتباع نظام , ونبذ آخر , نبذه بالكامل , وأرجو من القارئ العزيز أن يٌحفز فطنته ويعتبر الديمقراطية خارج هذه المعادلة المعقدة لكي لا نضطر لإقامة مقارنة بين نظامنا السياسي والأنظمة الديمقراطية المتقدمة , فلا نريد الدخول في موضوع آخر ونتشظى , فنحن قد تطرقنا إلى شيء من هذه المقارنة في مقال سابق , وما نقصده في هذا المقال هو الشأن الداخلي بحسب عنوان موضوعنا .
إن جل المقارنة التي يعقدها المواطن بين النظام السابق والحالي تتمحور حول شخوص , لا حكومات , فالحكومة عندنا تعني السلطة , والسلطة تعني القوة , وقوة السلطة تنحصر بشخص , وللأسف ؛ فإن الشخص – السلطة يمثل فئة طائفية , وها هي المقارنة اليوم تجري بين نوري المالكي وصدام حسين , وقد يتساءل أحدهم عن سبب عدم إقامة مقارنة بين المالكي واياد علاوي , أو بين صدام حسين وأحمد حسن البكر , أو يتساءل آخر عن ضعف المقارنة بين النظامين السابق والحالي , ونظام عبد الكريم قاسم , ويتساءل ثالث عن سبب عدم وجود مقارنة شاملة بين حكومات العراق الحديث لنخرج بتقييم نهائي نتفق عليه كعراقيين ؟
إن الجواب عن الأسئلة السابقة يتلخص بموضوع الزمن , وما حُشر في الفترة الزمنية من ثقل وطأة سلطوية , ومجيء نظام سياسي جيد, وبمقاييس مقبولة, ومكوثه في الحكم لأكثر من ثلاثة عقود, وتمكنه من إحداث ثورة في التطور والبناء ومؤسسات الدولة وعقلية الشعب, سيكون هو النظام الذي يقضي على حضور ما سبقه من الأنظمة في ذهنية المجتمع العراقي, وأؤكد على مسألة طول أمد بقاء النظام في الحكم وبفترة لا تقل عن ثلاثة عقود , لأن طول أمد الحكم يترك بصمة في ذاكرة الجمهور العراقي, ويفتح المجال للحكومة الجادة لتنجز الكثير, وتؤثر بشكل أعمق في الناس من ناحية التعود , والتطبيع مع النموذج الجيد للحكم , وهضم مفاهيم الدولة.
إننا بحاجة ماسة لحاكم سياسي يقود هكذا حكومة , فأذهاننا تعودت الحاكم الفرد , ولم تستوعب الشراكة السياسية , ولا الوطنية , ولا صيغة الشراكة في الحكم , ولا العمل الحكومي الجماعي , ولا التداول السلمي للسلطة , ولا المنافسة بين أحزاب سياسية تنتمي لعالم السياسة , ولا نستطيع الشعور بفضيلة التخلي عن السلطة , ولم نتعرف بعد على النضوج السياسي , الديمقراطي , وكيف تتطور رؤيتنا للحكومة , ونغادر محنة الانقياد القهري للرمزية الفردية , فذاتنا متعلقة قسراً بموضوع يجذبنا بقوة جبارة لم ننفلت منها , فصار موضوع الفرد المتسلط ذا سطوة عظيمة على وعينا وإدراكنا , وعي الذات , وإدراكنا الموضوعي , وكان لزوماً أن نفرغ أوعيتنا ومدركاتنا المملوءة في شخص يصدم أنماطنا المعتادة , والتي أجد فيها ظاهرة من الإدمان الجمعي , فيكون هذا الشخص الحاكم صدمة زمنية – انجازية تتشرب في أعماق عقولنا المتهدمة انهياراً على النموذج السيئ, صدمة تصل إلى جذور الوعي وأسسه حيث مقر ذاكرتنا الممتهنة , وتصوراتنا وميولنا , ولست أثق – شخصياً- بالنظام الحالي , ولا أميل للسابق .
وتبقى المعادلة في غاية الصعوبة , فهل يمكن أن يأتي الحاكم ( الفاصل ) في هذه الظروف الفوضوية المتوارثة عبر دهر طويل , وكيف يتسنى لهكذا حاكم العمل والانجاز وحوله معمعة التكالب على السلطة , والمجهضات الخارجية , والانقسامات الطائفية الحادة , والتقسيمات المناطقية , ومن ورائنا مشاريع عملاقة مضادة , وأمامنا بلادنا تسير إلى المجهول بسرعة مرعبة , كيف له أن يوقف التدحرج , وإذا افترضنا أنه أوقف التدحرج , فكيف له أن يدعونا للهدوء .. وللهدوء موضوع مستقل .
جانب المعادلة الآخر يقع في ضفافنا , نحن العاجزين عن التعايش مع فكرة النظام الثالث من خلال التصور الثقافي المتأتي من طفرة , ولكن ؛ هل يحق لنا أن نطمأن لحاكم يدعي أنه الحاكم الفاصل ؟؟ وكيف نغادر متلازمة الهاجس من شبح الانتهازي , المخادع , المبتسم الماكر , جلد الأفعى وأنيابها ؟؟ إنها معادلة صعبة , وتكاد تكون مغامرة لا نجرؤ على تقبلها خوفاً من أن نقع في فترات مظلمة أخرى , ولكن ؛ نحن غارقون فعلاً في الظلام , ومستمرون في حالة الانزلاق , وهل يخاف الغريق من البلل ؟؟؟ نعم يخاف .. ولماذا يخاف ؟؟ يخاف لأنه تعود على الخوف ولا يعرف شعوراً غيره, ونحن خائفون, وتسرب الخوف إلى أعماق أعماقنا , واستقر في القرار, وللخوف موضوع مستقل .
إن الحاكم الفاصل ملزم بإقناع كل الشعب , أو أغلبيته , بسياساته ورؤاه وبرنامجه , وعليه أن يُطمئن الشعب , ويتبادل معه الثقة , وعليه أن ينعتق من سطوة الفاعل الخارجي , وأن يجد طريقة لاستبدال السطوة بالمصالح التي تقنع الفاعلين الخارجيين فيتخلوا عن مشاريع الفتك بالعراق , ويصبر على الاستفزازات الخارجية , ولا يثأر لشخصه على حساب شعبه , وهذه لوحدها تضحية جسيمة ترهق السياسي الشرقي , وخاصة في بلد كبلدنا, فالمزاج الشخصي للحاكم يذهب بالبلاد إلى أعتى الحروب والحصارات والاحتلالات والطائفية المهلكة .
الحاكم الفاصل هو فاصل يفصل بين مرحلتين لا تتشابهان , مرحلة التفرد ومن ثم التعددية المتشظية , إنه الحاكم السياسي الذي يحمل رسالة وطنية عقلانية يتفانى لإكمالها , ويصبر ويصطبر على طول أمد انجازها , ولا يصيبه الغرور أو الانسياق خلف الانفعالات فيقصر من عمرها , فذاكرة العراقيين لن تتأثر كثيراً بعَقْدٍ , أو بعَقْدٍ ونصف , ولا حتى عقدين , فإعادة صياغة العراق خطوة تحتاج وحدها إلى سنوات عديدة , ثم نحتاج إلى سنوات أخرى لتنغرس الخطوة في ذاكرتنا .
سنصحو بعد ثلاثة عقود على تجربة مررنا بها فعلاً وواقعاً ومنجزاً تتوجت بإنجاز عراق متقدم ومتحضر وهادئ , وسنحتفي بالشخصية الفذة التي صدمت تخلفنا وسلبيتنا وعنفنا وتقلباتنا وبؤسنا , فأعادت إنتاج ذواتنا , وصيرتنا إلى مصاف الشعوب المحترمة , ورسخت فينا ذاكرة أقوى من مرض تذكر البؤس والتعايش معه ذهنياً, ستكون شخصية الحاكم الفاصل قد مكثت فينا طويلاً إلى أن تمكنت من المكوث في نفوسنا , وعقولنا , وعواطفنا , وبعده , وتأثراً به , لن نتقبل حاكماً أهوج, أو حكاما أهوجين.
إنه الحاكم الفاصل, النظام الثالث.