إحياء ذكرى ولادة النبي الصادق الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين وسلم، يعتبر أحد المحطات الهامة في تاريخ الأمة، ويدخل في قوله تعالى: { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ }- ابراهيم:5، أي بنعمه عليهم وإحسانه إليهم ومن هنا يجب أن نجعل هذا التذكير محطة سنوية لربط الأمة بنبيها وآله، الى جانب المحطات العظيمة الأخرى في تاريخها مثل يوم المبعث النبوي الشريف وكذا ذكرى استشهاد خاتم المرسلين، وعيد الغدير الأغر وغيره من المحطات السماوية الاخرى. لكن أصوات المتاجرين بالدين تعالت على منابر التكفير والتفسيق خلال العقود الأخيرة بقيادة فقه الفرقة الوهابية الضالة المظلة التي لم تترك مجالاً لمحبي الحق والحقيقة من شيعةً وسنةً ليسمعوا صوت الرسالة المحمدية الاصلية تلك الجماعة التكفيرية المتطرفة التي تتمتع بدعم فكري ومالي سعودي، سعياً منها لزرع الفتن وخلق الفوضى بين صفوف الأمة.
الاحتفال بميلاد وسيرة خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه هو تذكير بقيم الخير والفضيلة حيث تحيي الأوساط الاجتماعية والفعاليات الثقافية والدينية الشعبية في أرجاء المعمورة بالمدائح النبوية والأشعار والكلمات المعبرة والمستوحاة من المناسبة مشددين على أهمية تزكية النفس المسلمة والانطلاق من هذه الذكرى في مسيرة التصحيح القيمي والأخلاقي على مستوى الفرد والمجتمع، تلك المسيرة التي جاء بها المصطفى الأمين صلى الله عليه على آله وصحبه المنتجبين لمعالجة أمراض النفوس والقلوب التي تجعل الانسان يظلم أخاه الانسان، والقوي يأكل الضعيف ويعتدي عليه كما كان وضع العرب في عصر الجاهلية الظلماء.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تأكيد لما جاءت به الرسالة السماوية السمحاء بضرورة الوعي واليقظة وكسب العلم واستنكار واقع الأمة الاسلامية لناحية انتشار الكثير من مظاهر الانحراف والفساد والجريمة والعبودية لغير الله سبحانه وتعالى والتزلف للسلطان الجائر وتقديسه وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يؤشر على ضعف ارتباط الأمة بنبيها المبشر والمنقذ؛ والتشديد على أهمية القرآن الكريم باعتباره الدستور الخالد والمعجزة الأبدية، والتأكيد على أهمية وحدة الأمة ونبذ التفرقة {وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا}- آل عمران:103، الى جانب الاهتمام بتربية النشء والحفاظ عليهم في أجواء الخبث والإغراءات العاصفة والفتن الدنيوية التي تكتسح الساحة الاسلامية وتزهق أرواح الأبرياء والعزل وتنتهك المقدسات وتستبيح الأعراض، تلك التي أكد الله سبحانه وتعالى على حرمتها ووجوب رعايتها.
الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق يقول:” الاحتفال بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل الأعمال وأعظم القربات لأنه تعبير عن الفرح والحب له ومحبة رسول الله أصل من أصول الإيمان وقد صح عن أنه قال: “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده”، مضيفاً: “ان أصل الاجتماع لاظهار شعائر الاحتفال بالمولد مندوب وقربة لان ولادته أعظم النعم علينا والشريعة حثت على إظهار شكر النعم وهذا ما رجحه ابن الحاج في المدخل بقوله: في هذا الشهر منَّ الله علينا بسيد الأولين والآخرين فكان يجب أن يراد فيه من العبادات والخير وشكر المولى على ما أولانا به من النعم العظيمة”؛ كما نص على ذلك غير واحد من المؤرخين مثل الحافظ بن الجوزي وابن كثير والحافظ بن دوحي الأندلسي والحافظ بن حجر العسقلاني والشاطبي والسيوطي والسخاوي وابن عابدين والحافظ عبد الرحيم العراقي والحافظ شمس الدين ابن الجزري وأبو شامة (شيخ النووي) والشهاب أحمد القسطلاني والكثير من كبار العلماء والرواة وأصحاب الحديث.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف علامة ودّ ومحبة لخير البشرية التي لا يعرفها على حقيقتها إلا من عرف مكانته التي ناداه مولاه العلي القدير في القرآن الكريم بها بقوله: “يا أيها النبي”، و”يا أيها الرسول”، بينما نادى بقية الأنبياء بأسمائهم؛ هو علامة محبتنا للرسول الأكرم (ص) ما تعني سلك طريقه والدعوة الى سبيله والى معرفته حق المعرفة والنهوض بتعاليمه وتذكير الأمة بتوصياته التي أغفلوها وتغافلوا عنها حباً بالدنيا والسلطة والمقام والقبلية الجاهلية ونكراناً للجميل ورفضاً لمواقف النبي الصادق الأمين التي تجسد فضيلة الرحمة في شخصيته المباركة، وان لا تكون سنة الصادق الأمين في واد وسلوكنا وعاداتنا وأخلاقنا في واد آخر كما هو حال الكثير من علماء بلاط الفتنة والنفاق والفرقة والتزوير ومؤسساتهم الدينية الذين يهرولون من وراء الريال والدرهم والدولار “والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” – التوبة: الآية 34 .
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف سنة حسنة كما وصفها الشيخ محمد عبده والشيخ محمود شلتوت والشيخ عبدالله محمد حاتم والشيخ عمر بن حفيظ، وما قول الشهيد الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطى عنا ببعيد حيث قال: “الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو تذكير بقيم الخير والفضيلة وتعظيم وإظهار الحب والود لخاتم الرسل (ص)، ومن أبرز مصاديق “ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”؛ وتذكير بقيم الخير والفضيلة والسنة الحسنة”، وليست بدعة كما يدعي بعض الذي حرفوا وزورا تفسير الكتاب والسنة على أهوائهم الشهوانية ورغباتهم الشيطانية ومرضاة لهبلهم الذي لايعرف من الايمان حتى ألفه، مشددين ان الاحتفال “بدعة” فيما الاحتفال بشفاء الملك والحاكم واعتلائه السلطة أو عودته الى البلاد أو افتتاحه لمشروع أو … من الاحتفالات الدنيوية مثل “الجنادرية” و”اليوم الوطني” وغيرها المليئة بالفسق والفجور ليست ببدعة طالما تؤمن رغبة سلاطين بلاط البترودولار الذين أفسدوا الدين والكتاب والسنة ومزقوا الأمة وعصفوا بها برياح التفرقة والاقتتال والتناحر والتقاتل والذبح وقطع الرؤوس والسبي والتدمير والحقد والعداء .
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليس كما يدعي أصحاب البدع والتحريف والتزييف والتفاسير الشهوانية البعيدة كل البعد عن أصل الاسلام وأسسه وقواعده وعقائده السماوية الحقة، فألصقوا تهمة “البدعة” به في وقت لا يعرفون معنى البدعة ويجهلونها، فيما الاحتفال بمولد الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه يعني الاحتفاء به، والاحتفاء به أمر مقطوع بمشروعيته لأنه أصل الأصول ودعامتها الأولى فقد علم الله سبحانه وتعالى قدر نبيه فعرف الوجود بأسره باسمه ومبعثه وبمقامه ومكانته فالكون كله في سرور دائم وفرح مطلق بنور الله وفرجه ونعمته على العالمين وحجته؛ وليس كما يدعونه من أنه “تشبه بالنصارى” لما يقومون به في احتفالات ذكرى الميلاد المبارك.. وكبيرهم الذي علمهم السحر أبن تيمية يعترف بزيف مدعاة بأنه “بدعة” في كتابه (إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) قائلاً: “فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم” .
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو من باب محبة للرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين، وتعظيمه كما أمرنا الله سبحانه تعالى بذلك في أكثر من آية منها {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ .. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” – اﻷعراف: 157؛ حيث قال الطبري في جامعه “وعزروه معناه عظموه”، وجاء في “التفسير الكبير” للرازي ما نصه “وعزروه يعني وقروه”، وقال القرطبي في جامعه “فالذين آمنوا به وعزروه” أي وقروه ونصروه، وقال ابن الجوزي في زاد المسير في تأويل وعزروه عظموه وفي الدر المنثور للجلال السيوطي ما نصه عن أبن عباس في قوله “وعزروه” يعني عظموه ووقروه.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يوحد الأمة الاسلامية المتفرقة ويبعّد الناس عن الضلالة والكفر بالاضافة الى التركيز والتأكيد على الوحدة الوطنية والأخوة الاسلامية والتلاحم الايماني الرباني وتذكير بأخلاقه السامية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} – القلم:4، خلق رفيع سامي لا يمكن لحد إنكاره تلك الصفة التي يخافها ويهابها أعداء الأمة من داخلها وخارجها كونها مصدر القوة والرادع لكل مخطط ومشروع قذر يستهدف الأمة برمتها، وقله تعالى {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}- المائدة: 82.. ومن هنا يقول الأديب البريطاني الشهير “هربرت جورج ويلز” أن “النبي محمد (ص) أعظم من أقام دولة للعدل والتسامح”.
المؤرخ الأميركي الشهير “مايكل هارت” في كتابه “أعظم مائة شخص في التاريخ”.. “إن اختياري لمحمداً، ليكون الأول بين أهم وأعظم رجال التأريخ ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التأريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي. ولأنه أقام الى جانب دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً، وحد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كلَ أسس حياتها، ورسم أمور دنياها ، ووضعها في موضع الانطلاق الى العالم. أيضاً في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية، وأتمها”.. فيما المفكر الفيلسوف الفرنسي “ألفونس دو لامارتين” يقول: “النبي محمد هو النبي الفيلسوف المحارب الخطيب المشرع قاهر الأهواء وبالنظر الى كل مقاييس العظمة البشرية أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد (ص)؟؟”..
“كان محمد الرأفة والطيبة بعينيها والذين من حوله كانوا يشعرون بتأثيره ولم ينسوه أبداً”- الباحث الهندوسي ديوان شاندشارمة في كتابه (رسل الشرق).. والمؤلف الايرلندي جورج برنارد شو يقول: “لابد أن نطلق عليه لقب منقذ الإنسانية، واعتقد لو وجد رجل مثله وتولى قيادة العالم المعاصر لنجح في حل جميع مشاكله بطريقة تجلب السعادة والسلام المطلوبين”.. أما المستشرق الالماني برتلي سانت هيلر فكتب في كتابه (الشرقيون وعقائدهم):”كان في شخصية محمد صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمة”.. وقالت الكاتبة البريطانية الشهيرة والناشطة في مجال حقوق المرأة: “إنه من المستحيل على الدارس لحياة وشخصية النبي العربي العظيم، والذي يعلم كيف عاش وكيف كان يعلم (أتباعه)، إلا أن يشعر بالتوقير لهذا النبي القدير، واحد من أعظم رسل (الرب) العلي”؛ وهناك الكثير الكثير بهذا الخصوص لا يسع لمقالنا هذا أن يضمها جميعاً.
كما تصادف هذه الأيام الميمونة والمباركة ذكرى مولد الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام (83 للهجرة)، الذي حمل عبء الاسلام المحمدي بنقائه وصفاته وأخلاقه على شاكلة جده الصادق الأمين، فالتفت حوله الأمة وقصده العلماء من کل مکان يبغون علمه ويرجون فضله حتى جاوز عدد تلامذته الالاف الذين نقلوا العلم الى مختلف الديار فکان الصادق بحق محي السنة المحمدية ومجدد علوم الشريعة الالهية .
وجسدت شخصية الامام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) العظيمة من هدي الاسلام الحنيف وبما حملت من نور تجذب الناس اليه وکان بما حمل من علم وفهم وخلق وإخلاص لله تعالى يذکرهم بسيرة الرسول الاکرم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الميامين، وآبائه السابقين من أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام.