قبل ان يصل الى الختام؛ ينفجر ضاحكا؛ففي النهاية زبدة النكتة.
كان غايب طعمة فرمان، جليسا ممتعا، ليس لانه متحدث لبق، وليس لان مجالسيه، يعشقوه، أديبًا، بل لانه مثلنا، كلما يبّس العطش عروقنا، كلما بحثنا عن ورقة خضراء في ذاكرة الغربة.
عاش غايب؛ أكثر سنوات عمره (1927-1990) في
المهجر، لكن خزينه الروائي من سنيه في العراق، ظل مشرقا، رغم تنقله بين الصين وروسيا، واختلاطه ببشر مختلفين.
وخلال سنوات الغربة التي أنتهت بموته الفاجع عن 63 عاما ، تآكلت الذاكرة، وامتص العمل مترجما عن اللغة الإنكليزية في وكالة الأنباء الصينية، ومن ثم في دار التقدم( بروغريس) السوفيتية؛ رحيق، الروائي العراقي، الأكثر التصاقا، بأزقة وحواري بغداد، حتى إنك حين تقرأ ( النخلة والجيران) تشم رائحة ” الدهن الحري” يتفرقع في المقلاة.
نفد معين غايب من الصور والعوالم والشخصيات في عراق الصبا والشباب، وكان الروائي المتواضع الى حد الخجل من ظله،يغذي خيالاته، بصور الماضي، ويلتقط من القادمين الى موسكو،أحاديث ، وصورا، لعلها ترمم الذاكرة،ومن خلالها، تتشكل شخصيات ورموز الروايات القادمة لغايب.
كنا نلتقي الروائي العذب، في المناسبات العامة التي تحييها الجالية العراقية، في موسكو، وان كان غايب، يتهرب منها قدر المستطاع، لكنه كان يشعر بالسعادة في اللقاءات الخاصة الاكثر حميمية وتقتصر على الاصدقاء.
مَثَلَ غايب، للقادمين الى موسكو، اما للدراسة على حساب المنظمات الطلابية والحزبية المحظورة في العراق، او هربا من النظام السابق، أيقونة، وشارة في أجواء العاصمة
السوفيتية، الموحشة، ليس بفعل الصقيع فقط، بل لأن الحياة الاجتماعية والثقافية في موسكو، لم تكُ منفتحة على
الاجانب، كما في الدول الغربية. وتُعَد اية فعالية ثقافية او إجتماعية، حدثا لافتا ، يزدان تالقا بحضور غايب، والشخصيات المعنية بالثقافة من كتاب ومترجمين، على قلتهم.
وهكذا؛ فان غائب طعمة فرمان، كان بالفعل، الحاضر دوما في مخيلتنا، حتى وان كان غائبا، نتبادل مؤلفاته بنسخها القليلة، ونتحدث بشغف عن أبطال رواياته.
وحين اقتنى طالب معهد السينما بموسكو ( فكيك) قاسم عبد، أول كاميرا سينمائية مستعملة(16ملم)، فان الهدف الاول لعدستها، لم يكن غير غايب .
أنه الحكاية الأكثر حضورا في عالم موسكو العربية، تليق بالشاشة البيضاء .
وفي نفس المعهد، كان يَدْرُس التشكيلي المبدع، فؤاد
الطائي، وقد لاذ، مثلنا بموسكو من النظام السابق في
العراق، بعد سنوات مثمرة من العمل والخبرة في الصحف العراقية، وفي الاذاعة والتلفزيون، محررا ومعدا للبرامج ورساما.
وجرى الاتفاق، على ان نسجل حوارا مع غايب ، يتنقل ، بين محطات الحياة، ورحلات الابداع، وشخوص روايات فرمان، الحية في الذاكرة العراقية، خاصة بعد ان قدمت فرقة المسرح الفني الحديث، النخلة والجيران ممسرحة.وتحولت” خمسة اصوات” الى فلم سينمائي.
وصارت اسماء شخوص المسرحية، على كل لسان، ومضربا للامثال، يقلدها الصغار، ويدهش لقربها من حياتهم الكبار.
وواجهتنا نحن فريق العمل، الذي تشكل بالصدفة، فؤاد وقاسم وكاتب السطور، أن غائب، لا يحب الاضواء ويرفض الظهور، ولا يمتلك موهبة، التحدث أمام الكاميرات، ويتواضع الى حد الخجل، من الحديث عن نفسه وعن اعمالة.
وتعهدت بان” أنتزع ” من غائب ” إعترافات”.
كنت سجلت مع الروائي العراقي، مقابلة بثت إذاعةٌ
أجنبية، مقاطع منها، واحتفظت بمقاطع أخرى في الارشيف.
خلالها تحدث غائب بطلاقة غير معهودة، ولم يتلعثم او
يرتبك، ربما لان المايكرفون وجهاز التسجيل الصغير، أكثر طمأنينة للبغدادي الدمث، او لان ” الميانة” بيننا، حطمت حاجز التردد، وتجاوزت التعثر.
وبعد استعدادات غير قليلة، كانت تتلكأ بفعل تردد غايب ، وتقلبات الطقس في موسكو، الشبيه بمزاج، لوليتا اللعوب؛بدأنا التصوير بإمكانيات متواضعة، تغلّب عليها فؤاد الطائي ببدائل مبتكرة، أثارت شهقاتنا، وضحكات غايب المكتومة.
أذكر اننا سجلنا حوارات طويلة، في مواقع مختلفة.
وبعد الانتهاء من ” الملحمة”، انتظرت عرض الفلم في أقرب فعالية لمنظمة الحزب الشيوعي العراقي في موسكو، وعلمت متاخرا ان” الرفاق” أدلوا بدلوهم في الفلم الوثائقي القائم أساسا على محاورة الروائي المقل في الكلام، فحذفوا المُحاور من الشريط ، على طريقة مقص الرقيب، المستعارة حرفيا من النظام الذي لاحقنا في بغداد، وشردنا من الوطن!
أعتقد ان غائب نفسه، فقد الإهتمام بمصير الشريط، الذي أستقر جزء منه في الرفوف العالية داخل علبة كارتونية من “حلويات الشكرجي” في شقة عميد العراقيين بروسيا، عادل العبيدي، المدير العتيد للمركز الثقافي السوفيتي في بغداد(1964-1978)، الذي تمكن بأعجوبة الهروب من العراق، بعد أعتقاله وعقيلته الراحلة ( ام فراس) في أقبية
الأمن، وتعرضهما لشتى صنوف التعذيب.
( أبو فراس) هو البطل الرئيس لرواية غائب ( المرتجى والمؤجل). فقد رصد الروائي عذابات ” ثابت حسين” القادم من بغداد لعلاج طفله ” حسان” المعاق إثر حادث مروع.
كان عادل العبيدي،يزور نجله البكر” فراس” مرة كل سنة، بعد ان قررت إدارة المشفى السوفيتي، إبقاء الطفل تحت العناية المتواصلة، ليستعيد القدرة على الحركة.
تأثر غائب، بمحنة العبيدي، وأعجب بثباته وجلده، وصار الاب الملتاع،والصبي المعلق بين الحياة والموت، بين الشلل التام، او العودة للعب مع أقرانه، مادة ثرية للراوية، في فترة؛ بدأ خزين غائب من الذاكرة العراقية، ينضب، فتحول يبحث بين أبناء الجالية العراقية في موسكو، عن شخصيات، يطرزون مخيلته الروائية.
ولان عادل العبيدي، أقرب اصدقاء الراحل غائب طعمة فرمان، فقد وجد التشكيلي ، خريج معهد ( فكيك) السينمائي في موسكو ، فؤاد الطائي، ان” أبو فراس” أفضل من يحفظ الشريط، حين أضطر الطائي، لمغادرة موسكو، نحو السويد، بعد ان تقطعت بمعظم العراقيين، السبل في موسكو، إثر انفراط عقد الاتحاد السوفيتي.
في العام الماضي، وقبل ان يجتاح العالم وباء كورونا، علمت من الصديق فؤاد الطائي، انه أودع العبيدي شريط المقابلة مع غايب ، خشية الضياع خلال تنقله في المنافي .
ولم تمض غير بضعة أيام على مكالمتنا الهاتفية، حتى استلمت الشريط الكنز من ” ابو فراس”. وبدأت رحلة البحث عن استوديو، يحول شريط (15 ملم) الى دجتل.
وحالت إجراءات العزل الاجتماعي عن تحقيق الهدف قبل شهر آب / اغسطس من العام الماضي؛ الذكرى الثلاثون لوفاة غايب بموسكو. وكنا نريد أحياء المناسبة بعرض الفلم.
اعاد قاسم عبد، الحياة الى الشريط الوثائقي ،وكأنه يرمم مبنى أثريا.
فالى جانب هذه اللقطات النادرة لغائب حيا، كان السينمائيان، علي كامل، وفاروق داود، أنتجا في موسكو، أيضا، شريطين وثائقيين؛ عن غائب طعمة فرمان، وأعتقد أنهما واجها نفس الصعوبات التي مر بها شريط قاسم عبد، على صعيد الامكانات التقنية، او استنطاق، الروائي البارع في الكتابة، المتلعثم في الحديث.
ان القيمة الاساسية، لأشرطة غايب الحي، ليس في مضامينها غير المتناسبة، قطعا، مع غزارة وعمق، وتنوع عوالم غائب طعمة فرمان.
أشرطة ثمينة، بفعل انها تؤرشف لشخصية،لم تحظ لا في الحياة، ولا في الممات، باهتمام لائق.
عاش غائب ومات غريبا. لكنه يبقى على الدوام الغائب الحاضر فِي وجداننا، وفي كل زواية ومنعطف من بغداد، المكلومة دوما ، بفقد المبدعين، وبندوب، الإهمال والتشوية على يد القبائل الهمجية، وتحالف أحزاب الفساد والاستبداد.
مات غائب، بعد أيام من غزو صدام للكويت.
ففي فجر الثاني من آب 1990، ايقظني مبكرا، يسأل عبر سماعة التلفون بصوت مرتعش:
هذا سواها المخبل!
كان يتنفس بصعوبة، وسمعت حشرجة من يوشك على مفارقة الحياة، والى ان فهمت ما المقصود بسواها المخبل، أدركت ان غايب بحسه الروائي، كان يشم رائحة الحرب المدمرة القادمة.
لم يمض غير أسبوع على ” عَمْلَة” الكويت ، حتى أُدخل غايب المستشفى، ولم تسعفه الرئة الوحيدة التي تجاور قلبا
متعبا، اذ اختنقت ،بمياه الحزن الثقيل، وفارق الحياة،على سرير معدني، في ردهة موحشة، يرطن ممرضاتها بالروسية، ولا يعرفن، إنهن يغمضن، عيني راوية الحزن العراقي العتيق، بخمسة أصوات، تندب القربان.
كاتب وصحفي ومترجم فذ مات منفيا عن نخيله الباسق، بلا جيران!