22 ديسمبر، 2024 5:42 م

الحاجة الملحة إلى التنوير

الحاجة الملحة إلى التنوير

في مقالة شهيرة للفيلسوف الألماني الشهير (مانويل كانط) كتبها أواخر القرن الثامن عشر في رده على أحد القساوسة، وقد تم نشر هذه المقالة في جريدة (برلين الشهرية)، يعرف (كانط) التنويرعلى أنها (خروج الإنسان من حالة قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه، قصور عجزه عن استعمال عقله دون اشراف الغير، قصور هو نفسه مسؤول عنه لأن سببه يكمن ليس في عيب في العقل، بل في الافتقار إلى القرار والشجاعة في استعمال عقلك أنت؛ ذلك هو شعار التنوير).

أسوق هذه المقدمة واضعا أياها أمام عين القارئ المتبصر والمتفهم لوضع مجتمعنا العربي بشكل عام، والعراقي بشكل خاص، لنلقي الضوء على أهم أسباب التخلف والانحطاط الفكري الذي نعيشه في عصرنا الحالي، والسؤال الذي نضعه أمام نصب أعيننا، ما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى حالة الغيبوبة الفكرية التي نحن عليها الآن؟ ما الذي حدث للمتلقي العربي_العراقي لكي يغيب جميع عناصر النهضة العلمية والثقافية من ميدانه، مستبدلاً أياها بالخرافة والشعوذة وتكبيل العقل بكل ما هو رجعي وغير حضاري؟

قبل التطرق إلى هذا الموضوع، لابد لنا من العودة إلى الخلف شيئا قليلاً، فعند سؤالنا لأي رجل من ذوي الأعمار الكبيرة، خصوصا من عاشر الفترة الممتدة من أربعينات القرن الماضي وصولاً إلى الثمانينات، وهم يروون تجربتهم في الحياة وما خاضوه خلال تلك الفترة من أعمارهم، فلا شك عند سؤالهم سوف يروون حياة أخرى مختلفة تماما عما نعيشه نحن اليوم، ليس فقط على مستوى الحياة الاقتصادية أو السياسية أو الدينية، بل على صعيد الحياة الاجتماعية وما كان يجول في خاطر الناس وأفكارهم، ففي الماضي الغير بعيد، كنا نرى بأن طبقة الشباب من طلبة وعمال أو فلاحين حتى، هم الطبقة الأكثر نشاطا على مختلفة الأصعدة السياسية منها أو الاجتماعية، فلا تكاد تنطلق مضاهرة ضد الحكومة أو قوى الاستعمار أو ضد فئة من الاقطاعيين، إلا والمحرك القوي لتلك المضاهرة هم الشباب، فتراها تنطلق من أروقة الجامعات مشركة فيها جميع فئات الشعب الأخرى، ملتفة حولها صادحةً حناجرها بالهتافات المناوئة لهذه الجهة أو تلك.

أما الآن فلا نرى أي مظهر من تلك المظاهر يحدث الآن، فجل اهتمام شبابنا هذه الأيام هي مواقع التواصل الاجتماعي أو السيارات أو أجهزة النقال أو مطاردة الفتيات من مكان إلى آخر.

وليس بعيدا عن هذا المثال، فالطبيعة الاجتماعية للناس قد تغيرت كثيرا، ومقاصدهم الثقافية والأدبية والعلمية انحرفت كثيرا عما كانت عليه خلال الخمسين عاما الماضية، فبدلا من قراءة الكتب أو المقالات العلمية والنقدية أو الثقافية، حلت محل ذلك برامج وفيديوهات السخرية والمقالب (التحشيش) ومتابعة الأبراج والعلوم الروحانية وفتاح الفال!

سمعت ذات مرة على أحدى إذاعات الراديو رأيً لأحدى السيدات البغداديات وهي تقول:- في صغرنا كان الأهل يعلمونا قراءة ومطالعة الروايات والمسرحيات العالمية لشكسبير وفيكتورهيوغو ودستويفسكي وغيرهم من أجل توسيع مداركنا وثقافتنا في سبيل المعرفة.

لكن ماذا عن الآن؟

أود أن أشير إلى مسألة مهمة يتم تداولها كثيرا في أوساط العامة، ألا وهي تكرار الكلام حول عجز الطبقة المثقفة في مجتمعنا لأحداث التغيير اللازم لأي ظاهرة سلبية من ظواهر مجتمعنا وخصوصا السياسية.

ناسين أو متناسين بأن عجز الطبقة المثقفة يرجع اساسا إلى عدم دعمهم أو مساندتهم في أفكارهم ونشاطاتهم الثقافية أو العلمية من عوام الناس.

فبذلك يصبح الناس في حلٍ من تلك الطبقة _المثقفة أعني_ ومن أفكارهم وأفعالهم، فيبتعدون هم بالنتيجة أيضا عن مشاريع التحرر الفكري والتنويري بكافة اشكاله وأنواعه.

ويتجلى هذا الابتعاد الثقافي والفكري عن التنوير والثقافة ورجالاتها، بقلة عدد رواد النوادي الأدبية والعلمية والثقافية، هزالة عدد قراء الكتب بكافة مجالاتها والروايات والمجلات ذات العلوم النافعة للبشر، إضافة إلى (تقديس) رجال الدين واتباعهم اتباع أعمى في كل ما يخص حياتهم تقريبا.

كل تلك الأسباب وغيرها من ما لا يسع المجال لذكرها أدت في نهاية المطاف إلى هذا الانحطاط الثقافي والفكري والاجتماعي الواضح في أحوال الناس على كافة الصعد والجوانب.

في الختام، يطيب لي أن أذكر بيتين من الشعر العربي لقامة من قاماته وفخر من مفاخر العراق، أنه الكبير محمد مهدي الجواهري، فهو الذي يقول في أحدى أشهر قصائده:-

ستبقى طويلاً هذي الملماتُ……….إذا لم تقصر عمرها الصدمات

إذا لم ينلها رجالٌ مصلحون بواسلٌ…….جريئون في ما يدعون كفاة

والسلام ختام.