19 ديسمبر، 2024 1:04 ص

الحاجة الذاتية للمجتمع محرّك الديالكتيك السياسي

الحاجة الذاتية للمجتمع محرّك الديالكتيك السياسي

أسست النظرية الماركسية تحليلاتها للمجتمع على استخدام التاريخ كمنهج أساسي وكسياق ضروري لفهم طبيعة التنظيم الاجتماعي. غير أن هذه النظرية لا تقصد بالتاريخ عملية التأريخ l’historiographie التي تتوقف عند مستوى جرد أحداث الماضي وترتيب وقائعه وإنما تقصد بالتاريخ المقاربة الشمولية التي يتم على أساسها الانتقال من الواقعة التاريخية المنعزلة إلى الوقوف على القوانين العلمية التي تفترض هذه النظرية بأنها تكمن وراء كل الوقائع التاريخية التي تبدو للملاحظ إما منعزلة عن بعضها، أو معكوسة تحتل فيها النتائج مكانة الأسباب. بهذا المعنى، لا يمكن الفصل بالنسبة للماركسية بين البحث التاريخي المؤدي إلى اكتشاف قوانين التاريخ وتصنيفها ضمن أنماط محددة للإنتاج، وبين قوانين التنظيم الاجتماعي في حقبة تاريخية محددة.
تعود نشأة علم الاجتماع حسب البعض لعالم الاجتماع العربي ابن خلدون حيث ناقش لأول مرة علم الاجتماع في كتابه المشهور (المقدمة) ليدرس فيها بعض الشعوب. أما علم الاجتماع الماركسي كان نتيجة أبحاث كارل ماركس وفريدريك أنجلز في الفلسفة وخصوصا دياليكتيك هيجل الذي أثر في الفلسفة الماركسية وكان نتيجة تطبيق قوانين الديالكتيك في علم الاجتماع ولادة ما يسمى المادية التاريخية وهي التي تعبر عن جوهر علم الاجتماع الماركسي ، فحسب النظرة الماركسية فإن ما يسمى بالبناء الفوقي هو انعكاس للبناء التحتي ، وبالتبسيط تعتبر الماركسية أن البناء الفكري والأخلاقي للمجتمع هو انعكاس طبيعة العلاقات الاقتصادية السائدة في المجتمع ، وتعبر بشكل أو بآخر عن الطبقة السائدة .
إلا أن الطبقات الاجتماعية، وإن كانت تخضع لقانون موحد وهو التناقض والصراع فإنها لا تأخذ شكلا واحد، ولا تتبع أسلوبا محدد في الصراع. فالطبقات الاجتماعية لم تأخذ شكلها النهائي والواضح إلا مع ظهور الصناعات الكبرى في القرن التاسع عشر. فإذا كان من السهل تحديد الطبقات في المجتمع الصناعي في قطبين رئيسين هما البرجوازية والبروليتارية، فإن هذا التحديد يصبح أقل سهولة في المجتمعات التي لم تدخل بعد إلى المرحلة الصناعية ،والتي لا يزال فيها الصراع الاجتماعي لم يأخذ شكلا مكشوفا يتم التعبير عنه سياسيا بواسطة الأحزاب والنقابات ، بل لا زال يمر عبر قنوات أخرى كالدين أو اللون أو العرق أو اللغة.غير أنه يمكن مع ذلك تحديد بعض الخصائص العامة للطبقات الاجتماعية. إنَّ الطبقة الاجتماعية مقولة تاريخية ترتبط بتطور المجتمع وهي موجودة حسب الماركسية، في كل البنيات الاجتماعية التي أنتجها التاريخ، فإذا كانت المجتمعات الرأسمالية تعرف بروز طبقات اجتماعية بخصائصها الاقتصادية والاجتماعية المميزة، ويدرك أعضاؤها الصراع فيما بينهم كصراع اقتصادي وسياسي واضح، فإن مجتمعات ما قبل الرأسمالية قد عرفت أشكالا أخرى من التنظيم الطبقي لا يظهر فيها الصراع بشكل اقتصادي مباشر أو سياسي واضح وإنما يعبر عن نفسه من خلال القنوات الثقافية والأيديولوجية.
يقول الفيلسوف المسلم السيد الشهيد محمد باقر الصدر(رض) : حب الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزة أعم منها وأقدم ، فكل الغرائز فروع هذه الغريزة ، بما فيها غريزة المعيشة. فإنَّ حب الإنسان ذاته الذي يعني حبه للذة والسعادة لنفسه، وبغضه للألم والشقاء لذاته هو الذي يدفع الإنسان الى كسب معيشته، وتوفي حاجاته الغذائية والمادية .ولذا قد يضع حداً لحياته بالانتحار، إذا وجد أن تحمل ألم الموت أسهل عليه من تحمل الآلام التي تزخر بها حياته .
فالواقع الطبيعي إذن، الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلها ويوجهها بأصبعه هو حب الذات ، الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الألم .ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمل ـ مختاراً ـ مرارة الألم دون شئ من اللذة ، في سبيل أن يلتذ الآخرون ويتنعموا، إلا إذا سلبت منه إنسانيته، وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشق اللذة ولا تكره الألم .
وحتى الألوان الرائعة من الإيثار ، التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تاريخه تخضع في الحقيقة أيضا لتلك القوة المحركة الرئيسية (غريزة حب الذات ). فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه ، وقد يضحي في سبيل بعض المثل والقيم ، لكنه لن يقدم على شئ من هذه البطولات ما لم يحس بلذة خاصة ، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن إيثاره لولده وصديقه ، أو تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها .وهذا ما تراه الفلسفة الاجتماعية الرأسمالية .
بينما الذي تراه الفلسفة الاجتماعية الماركسية هو تطوير الإنسانية ، باعتقادها أن حب الذات ليس مَيلاً طبيعياً وظاهرة غريزية في كيان الإنسان ، وإنما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية، فإنَّ الحالة الاجتماعية للملكية الخاصة هي التي تكوّن المحتوى الروحي والداخلي للإنسان ، وتخلق في الفرد حبه لمصالحه الخاصة ومنافعه الفردية. فإذا حدثت ثورة في الأسس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي ، وحلت الملكية الجماعية والاشتراكية محل الملكية الخاصة فسوف تنعكس الثورة الى كل أرجاء المجتمع وفي المحتوى الداخلي للإنسان، فتنقلب مشاعره الفردية الى مشاعر جماعية، ويتحول حبه لمصالحه ومنافعها الخاصة الى حب لمنافع الجماعة ومصالحها، وفقاً لقانون التوافق بين حالة الملكية الأساسية ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيف بموجبها.
الواقع أن الإنسان لو لم يكن يملك سلفاً الدافع الذاتي ، لما أوجد هذه التناقضات ، ولا فكر في الملكية الخاصة والاستئثار الفردي. ولماذا يستأثر الإنسان بمكاسب النظام ، ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين ، مالم لا يحس بالدافع الذاتي في أعماق نفسه ؟!فالحقيقة أن المظاهر الاجتماعية للأنانية في الحقل الاقتصادي والسياسي لم تكن إلا نتيجة للدافع الذاتي لغريزة حب الذات .
عليه؛ فإن المعالجة الحسنى ؛ لهذه المشكلة تكمن في الحل الذي يغرس في ذات الإنسان والمجتمع برعماً خصباً للتعاطي والعطاء يتلاقحان الشعور بالمنفعة الذاتية المتبادلة ، بأنَّ كل تضحياته وتنازلاته عن متطلباته الذاتية ستوثق لصالح ذاته الآجلة آن المعاد ، وإن انسكب نفعها على الآخر الصالح من أبناء مجتمعه ، وهي في الوقت ذاته تمثل ربطاً كهربائياً دائرياً متشابكاً تتبادل تغذية الإنسانية أفراداً وجماعات ، وأشبه ما تكون بدورة الماء في الطبيعة .
إنَّ ما آلت إليه حركات التحرر العربية والعالمية ، في شرق الأرض وغربها ، يستمد كنهه مما تقدم فهمه. وإنَّ ما نراه اليوم من حركة متلاحقة لما يسمى بثورات الربيع العربي ـ مالم تكن مأجورة ومدعومة خارجياً ـ ما هي إلا تحقيقاً لرؤى كارل ماركس في الحتمية التاريخية ، من أن الشعوب سائرة نحو حكم نفسها بنفسها دون رئيس واحد عليها،وهي هنا؛ بمعنى الفوضوية التي قصدها كارل ماركس بالمعنى الفلسفي الحضاري وليس بمعناه الذي يخرج على الأعراف الإنسانية الثابتة، فالحالة السوسيولوجية للمجتمعات والشعوب اليوم أشبه ما تكون بسلطة مطلقة جامحة للشعب دون رئيس متسلط واحد عليها ، بل أن رئيسها هو الشعب كله ، ومن معنى (الفوضى) كما في مختار الصحاح الذي يعني(القوم المتساوون الذين لا رئيس لهم) ، وإنْ يوحي هذا التعريف لمعنى الانفلات الشعبي ، فليس من الضروري أن يكون الانفلات عن سلطة الحكم الدكتاتوري عيباً على الشعوب المتطلعة لحكم نفسها بنفسها ،فانتهاء مرحلة الرئيس الواحد الدكتاتور ومجيء مرحلة الرئيس المجموع المتساوي .. الرئيس الجماهير .. الرئيس الشعب ،تعني أوان مرحلة جديدة من مراحل حركة التاريخ ، بحتمية تاريخية كان قد تنبه لها كارل ماركس منذ زمن بعيد ، وهي مرحلة الفوضوية التي وصلت إليها شعوب العالم الآن ، بعدما أصبح القوم أو المجتمع عبارة عن أفراد متساوون لا رئيس عليهم غير رئيس إرادتهم ، إرادتهم التي بها ينتخبون ، وأنهم يقررون ــ هم ـ من هو الذي يتولى مقاليد حكومتهم التي ـ هم ينتخبونها ـ بحيث يصح أن أقول ـ  إنَّ نبؤة كارل ماركس التي أعلنها قبل أكثر من قرن من الزمان قد تحققت اليوم ، مقرونة بالرؤية الشخصية المتواضعة ، من أن العامل الاقتصادي ليس بالضرورة أن يكون هو محرّك التحولات السياسية في تاريخ العالم ، بل ؛ إنَّ الحاجة الذاتية النابعة عن تذمر الذات الإنسانية للفرد والمجتمع ، التي شاءت أن تحقق ما تريد لأجل الانقلاب على الواقع الذي لا يمثل طموحاتها التي تتمنى أن تعيش عليها في أوطانها ، من خلال نزعة الانتصار على الواقع الغير معبّر عن حاجاتها وتطلعاتها ، بصرف النظر عن حاجاتها الإقتصادية ، ولا طبيعة وسائل الإنتاج . وهذا لايفضي إلى الإعتقاد بأنَّ الجماهير التي تكون هي الرئيس على الشعب لا تحتاج إلى حكومة ترعى وتنظم فن إدارة الحكم في بلدانهم . إذ لا يمكن أن نتخيل وطن وشعب بلا حكومة دائماً ، ربّما يكون كذلك لفترة التحول الفوضوي حسب! وإلا فبماذا نفسر معنى التعدديات الحزبية المطروحة بديلاً عن الحكم الشمولي الأوحد .. الملكي أو الرئاسي ، لفردٍ أو لحزبٍ دون غيره في الوطن الواحد ؟!
التعددية الحزبية ، والانتخابات الديمقراطية .. البرلمانية والرئاسية ماهي إلا ملامح للمرحلة التي تنبأ بها كارل ماركس ، بعد ردح من الصراعات الطبقية التي أفضت إلى ما آلت إليه شعوب ومجتمعات المعمورة الساعية إلى تحقيق مطالبها الذاتية وتحقيقها ، ثورة ً على اضطهاد الذات الإنسانية المقموعة والمقهورة بإرادة حاكمة متفردة بسلطة الوطن لوحدها ، دون سلطة المجموع من أبناء الشعب ، وإن تعددت اتجاهاتهم العقائدية والمذهبية والعرقية في الوطن الواحد ، لكنهم يصبون إلى تحقيق ذات المواطن بمشاركة مشاعة لدى الجميع في حاكمية الوطن المشاع لأهله المواطنين . وهي مصداقية لقول الإمام علي (ع) : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار !
وإني لأرى النظرة الغيبية للديانة المسيحية والفلسفة الإسلامية لحركة التاريخ ، بأنَّ الأرض يرثها عباد الله الصالحون ، تنحى بهذا المنحى . وما فكرة (المخلـّص) إلا وجه من هذه الوجوه ، وما فكرة (المهدي المنتظر) إلا وجه من هذه الوجوه.بمعنى ؛ أن البشرية تسير نحو الحاكمية المطلقة لديمقراطيتها الشاملة دون غلبة الأكثرية على الأقلية ، ودون مصادرة لحقوق الآخرين الصالحين من بني الإنسان ، ضمن حركة حتمية للتاريخ البشري المجتمعي السياسي ، محطته إقامة العدل الواسع الشامل برضاء المجموع كافة . وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .. وللناس كافة !
والحالة هذه ؛ فليس أمام الشعوب اليوم إلا أن تستمر في تحولاتها وثوراتها على واقعها الذي لا تريد، وليس أمام الحكومات إلا أن تذعن لإرادات الشعوب ، بصفتها حتمية تاريخية ، واقتراب عملي من مصداقية كارل ماركس عن حركة التاريخ . لكن؛ على أساس ذاتي للفرد والمجتمع وليس على أساس اقتصادي ، أو نتيجة لتبدل وسائل الإنتاج !
الإنسان العراقي في ثورة العشرين ثار على واقعه بالفالة والمكوار، وهو الذي ثار على واقعه في الانتفاضة الشعبانية عام 1990 برشاشات الكلاشنكوف . وهو العامل الذي كان يحمل الكرك (المجرفة) ، وهو الفلاح الذي كان يحمل المنجل والمسحاة (آلة الحرث اليدوي) ، وهو العامل الذي يقود الشفل والبلدوزر، وهو الفلاح الذي يقود البكب والحاصودة والتركتر . إلا أن حاجاته الذاتية هي التي كانت المحرّك في الثورات قبل حاجاته الإقتصادية . وأية حاجة اقتصادية لدى الإنسان تفوق حياته وهو يستقبل الدبابة الإسرائيلية في جنوب لبنان بصدره الأعزل ؟! لو لم تكن هنالك حاجة ذاتية داخليه تدفعه نحو تغيير واقعه الذليل ، ولو شاء أن ينال مكاسب اقتصادية لنالها خانعاً ذليلاً تحت ظلال الحكومات الجائرة،لو شاء أن يكون معها من الخانعين .
إنَّ حاجة الشعوب إلى العيش الكريم ، لا تعدم حاجتها إلى الحياة المرفهة المقرونة بالكرامة ، فلو أراد الفلسطينيون أن يعيشوا رغد العيش لانضووا مع إسرائيل وذابوا في دولتهم ولانتهت فلسطين . لكنهم كانوا وما زالوا يناضلون لأجل كرامتهم .. لأجل وجودهم .. حباً لذاتهم الوطنية ، لا حباً لرفاهيتهم الإقتصادية .
عندما تشعر الذات الإنسانية بالامتهان والهدر، سوف لن يكون هنالك شيء في الدنيا يغنيها .
أقول ؛ هكذا ثارت الجماهير ، لأنَّ إرادتها أقوى من الطغاة ، فعلى الحاكمين الصالحين الحذر من غضبة الجماهير ، بأنْ لا ينسوا نضالاتهم ـ وهم كانوا من الجماهير ـ بعدما يتربعون على كراسي الحكم ، فيتحولوا إلى حكام دكتاتوريين ، يعيدوا دور الاستبداد والقمع والحرمان إلى الأوطان ، فيعيدوا ثورات الشعوب الممتهنة الذوات!!!