في عصر يتسارع فيه التغيير وتتزايد فيه المتغيرات الجيوسياسية والاجتماعية، يظل الإعلام حجر الزاوية في تشكيل الوعي المجتمعي. لكن الإعلام وحده، رغم أهميته الكبرى، ليس كافياً ليشكل بوصلة حقيقية للمجتمع. المجتمع نفسه، بحراكه العفوي وطبيعته العاطفية والحماسية، يمثل الأساس الذي يُبنى عليه الإعلام، ويجب أن يكون الإعلام أداة تستجيب لهذه الحاجات المجتمعية الحيوية. لكن كيف يمكن للإعلام أن يحقق هذا الدور إن كانت المؤسسات الإعلامية مشوهة أو مسيرة بمصالح طائفية أو حزبية؟ إن الحرفية العالية، كما هي الحرية والحيادية، يجب أن تكون القيم الأساسية التي توجه الإعلام في أداء رسالته.
في الواقع، لا يمكن لأي مؤسسة إعلامية أو سلطة أن تتحقق من دورها الرقابي والتحقيقي ما لم تكن بعيدة عن الانتماءات الحزبية والطائفية. على الرغم من انتشار المؤسسات الإعلامية في العراق والدور الذي تلعبه في التأثير على الرأي العام، إلا أن العديد منها لا يزال يخضع لسيطرة القوى السياسية والطائفية التي تعوق حرية التعبير والمهنية الإعلامية. هذا الخلل يتجاوز حدود الإعلام ليصل إلى كافة مؤسسات الدولة التي تعاني من الهيمنة السياسية والفساد، مما يساهم في تكريس واقع اجتماعي وثقافي مفكك.
عندما نتحدث عن الإعلام الحر، الحرفي، والحيادي، نستلهم من هذه القيم ما يعزز قوة الإعلام كأداة لمحاربة الجهل والتضليل. الإعلام الحرفي، كما هو الحرية والحيادية، يجب أن يكون سلوكاً يتجسد في أفعاله اليومية، لا مجرد شعار أو أنشودة. إن الإعلام يجب أن يكون نزيهاً في طرحه، بعيداً عن التدخلات السياسية والفئوية التي تشوه رسالته. بيد أن التحدي الأكبر يكمن في كيفية توجيه هذا الإعلام في مجتمع يعاني من القيم المتناقضة والهويات الممزقة، سواء كانت سياسية أو ثقافية.
إن إشكالية الإعلام في العالم العربي، وبالأخص في العراق، تتعدى الحدود التقليدية للأيديولوجيا السياسية لتصل إلى تأثيرات ثقافية أعمق. فالهوية الثقافية المجتمعية، التي تندمج فيها الأحزاب السياسية والاتجاهات الفكرية المختلفة، تمثل بيئة خصبة لتعميق الانقسامات. الإعلام، باعتباره ساحة صراع حقيقية، يعكس هذه التناقضات ويعزز من صراعات الهوية، مما يجعل من الحرية الإعلامية مهمة شاقة تتطلب درجة عالية من الحرفية والحيادية.
في قلب هذا الصراع الثقافي والاجتماعي، يمكن أن نرى أن مفهوم الحرية لا يتحدد فقط بإطلاق العنان للأصوات المختلفة، بل بالقدرة على العيش في سلام مع التعددية الفكرية. الحرية الحقيقية تعني الحق في التعبير بشكل غير مشروط، ولكنها تعني أيضاً احترام الآخر والحفاظ على القيم الإنسانية التي تجمع بين أفراد المجتمع. وعندما ننتقل إلى مفهوم الحيادية، نلاحظ أنه لا يمكن لأي وسيلة إعلامية أن تُعتبر محايدة في بيئة مليئة بالصراعات، ما لم تكن قادرة على التوازن بين التوجهات المختلفة، بعيداً عن التأثيرات الخارجية.
التحدي الذي يواجه الإعلام في العالم العربي يكمن في الدور الذي يلعبه في تشكيل الوعي الجمعي. ففي مجتمع يعاني من هويات ثقافية متعددة ومتضاربة، لا يمكن أن يكون الإعلام مجرد ناقل للأحداث، بل يجب أن يكون عنصراً فاعلاً في تكوين الوعي الثقافي والاجتماعي. إذا كان الإعلام يسعى لتحقيق الحرفية، فإنه ينبغي عليه أن يتجاوز الاستجابة لاحتياجات القوى السياسية والطائفية، ويعمل بدلاً من ذلك على تثقيف المجتمع وتعزيز قيم الحرية والحيادية.
إحدى أبرز الإشكاليات التي تؤثر على الإعلام والمجتمع في الوقت الحالي هي أزمة الهوية الثقافية، التي تؤدي إلى تكريس الاستقطاب الطائفي والعرقي. مع انعدام الحرفية والحيادية في وسائل الإعلام، يساهم ذلك في تعميق الفجوات بين مختلف الأطياف المجتمعية، مما يعوق عملية بناء مجتمع موحد. دور الإعلام إذن، يجب أن يكون في الأساس مرآة للمجتمع، يعكس التحديات وينير الطريق نحو إصلاح حقيقي.
إن التعامل مع “الحرية” في الإعلام يجب أن يُفهم في سياق مسؤولية عالية، لأن الحرية لا تعني الفوضى أو تجاوز القيم الأساسية التي تحكم العلاقات بين الأفراد والجماعات. الحرية الإعلامية تتطلب الحرفية، أي القدرة على تقديم الحقيقة بأمانة ودقة، وهي تتطلب الحيادية التي تضمن عرض كافة وجهات النظر بموضوعية، بعيداً عن تأثيرات القوى السياسية التي قد تحاول استغلال الإعلام لخدمة مصالحها.
وفي نهاية المطاف، تبقى الحريات الإعلامية والمهنية الحرفية والحيادية هي الأسس التي ينبغي أن يبنى عليها أي إعلام يسعى لتحقيق رسالة توعية ومؤازرة للمجتمع. الإعلام لا يجب أن يكون أداة تدمير أو تشويه للحقائق، بل أداة تسهم في تقدم المجتمعات من خلال تعميق الوعي السياسي والثقافي، والالتزام بالقيم الإنسانية النبيلة.
// هلسنكي _ 2.5.2025
#الحاءات_الثلاث #الحرية_والحرفية_والحيادية #الإعلام_الحرفي #حرية_الإعلام #الحيادية_الإعلامية #الإعلام_في_العراق #الوعي_الاجتماعي #مستقبل_الإعلام #صراع_الهوية #الإعلام_الإنساني#ضياء_ليلوةDiaLiilua #