22 ديسمبر، 2024 5:58 م

الجَهلُ المقَــدّس … (أعلى اللهُ مقـامَه)

الجَهلُ المقَــدّس … (أعلى اللهُ مقـامَه)

في المدارس … تعلمنا أن (الخط المستقيم) هو :- (أقرب أو أقصر مسافة تصل بين نقطتين) ، وكنا نرى هذا صحيحاً ، وهو – بالفعل – صحيح بالنسبة للهندسة الإقليدية أو (المستوية) ، ولكن على صعيد الهندسة (المتعرجة) ، فقد أثبتت الوقائع والتجارب والتراكمات أن هذا ليس صحيحاً ، بل الصحيح إن :- (الدين والتدين) هو :- (أقصر مسافة تفصل بين نقطتين) .

فالدين والتدين هو المسافة الأقرب التي تفصل بين الانسان وتحقيق رغباته وغاياته ومكاسبه على صعيد الدنيا والآخرة ، وهو أسرع وسائل النقل القديمة والحديثة الموصلة إلى الأهداف سواء (السامية) منها أو (المنحطة) ، ولذا نجد أن الأنبياء بُعِثـوا خصيصاً لإعادة توظيف الدين نحو الأهداف السامية ، وبالنتيجة ، كان للمتدينين (الفاسدين) وأباطرة وأساطين الكهنوت جواد السبق في محاربة الأنبياء والمصلحين والتصدي لهم .

وكما أن (الفطرة) تقود (المعزى) إلى لعق الأملاح المترسبة على الجدران لتعويض نقص عنصر (الكالسيوم) في جسمها ، فكذلك الفطرة قادت (الكثير) من (الفاشلين دراسياً) والمهمشين اجتماعياً إلى (النزوح) نحو المدارس الدينية لغرض ارتداء (الزي الديني) لتعويض النقص في شخصياتهم وشعورهم بالتهميش ، خصوصاً بعد أن رأوا حجم احترام المجتمع لرجل الدين ، وقيامهم تقديراً له ، وتقبيل يديه (تقرباً إليه وإلى الله) ، وكثرة الفرص التي تتأتى لرجل الدين في محطات حياته ، ولذا تجد (الفشل) العلمي يلاحقهم حتى في دراستهم للعلوم الدينية ، وقد يبقى أحدهم (سنين طوال) في الدراسة ، ويخرج منها بــ (خفي حنين) ، لأن غايته الزي الديني وما يترتب عليه من مكانة اجتماعية ، وليس (العلم) نفسه .

إن الحقيقة التي لا يريد البعض فهمها هي أن (احترام) رجل الدين ورواد الزي الديني ليس له أصل (ديني) ، وإنما هو نتاج التراكمات والأعراف والموروثات الاجتماعية ، بل هو أقرب إلى (الدين الشعبي) منه إلى حقيقة الدين ، وإن التسابق إلى (الانحناء) بحضرة رجال وعلماء الدين ، وتقبيل أيديهم ، هو سباق (اجتماعي) لم يرد فيه أيُّ دليل (نقلي) ولا دليل (عقلي) ، ولذا فإن هذه الظاهرة هي الأكثر انتشاراً لدى طبقة الجهلة ، والبسطاء ، وأساطين الجهل (المركب) .

وصحيح أن للعلم والعلماء احترامهم وتميزهم (المفروض) في المجتمع ، ولا رد ولا نقض لقول الله سبحانه وتعالى حين يقول :- (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏) ‏(‏المجادلة‏:- 11) ، بل لا ينتطح عنزان على ذلك ، ولا يستطيع عاقل أن ينكر أو يستنكر وجوب احترام العلماء ، ولكن المستنكر (بفتح الكاف) هو أن ينحصر الاحترام والتقدير بــ (علماء الدين ورجاله) دون غيرهم من العلماء الذين غيروا وجه التأريخ ، ومنحوا الانسان عصارة فكرهم وجهدهم العلمي .

والحقيقة إن حصر الاحترام والتبجيل بعلماء الدين هو نتاج ما بثه (المتدينون) بين أفراد المجتمع من أن (العلوم الدينية هي أشرف العلوم) ، وهذا مما لا يقبله العقل ، لأن رجال الدين وعلماءه ليسوا أشرف من بقية العلماء في حقول العلوم الأخرى ، بل لكل منهم حقه من الاحترام على قدر عطاءه وما (ينفع به الناس) في حاضرهم ومستقبلهم .

والحقيقة إن ثمة علاقة (تساهمية) بين المجتمع ورجال الدين وعلماءه ، فرجل الدين الذي يروج بأن (علوم الدين هي أشرف العلوم) يقابله في الضفة الأخرى مجموعة من الجهلة (أو المخدوعين) الذين يصفقون لهذه العبارة ويتعبدون بها ، ويتصورون بأن رجل الدين أو (عالم الدين) هو شخصية (فضائية) لديها كل الحلول ، وهو شخصية (آتاها الله) علوم الأولين والآخرين ، غير ناظرين إلى أن المتخصص بالعلوم الدينية (هذا إن وجدت فعلاً علوم دينية) ليس أكثر من (دارس) شأنه شأن بقية الدارسين لبقية العلوم ، بل ربما تكون بعض العلوم الأخرى أشد صعوبة وإرهاقاً (وأهمية) مما يتلقاه طالب العلوم الدينية .

وربما يصل اعتقاد البعض أن (رجال الدين وعلماءه) هم المحيطون بكل علوم الأرض ، بفيزيائها وكيميائها وطبها وهندستها ورياضياتها ، ولا نستبعد أن يذهب بعض الجهلة الى الاعتقاد بأن (رجال الدين وعلماءه) هم الأكثر شرفاً ونقاءً وطيبة وصدقاً وأمانة من بقية البشر ، وهم المفضلون عند الله ، وهم الأجدر والأكفأ والأحرى بفهم الكتب المقدسة والنصوص ، وهم (القيمون) على المجتمع بولاياتهم ، وأنهم (مقدسون) ، وبالنتيجة ، فكل ما (يمس) أو (يمت) للمقدس بصلة فهو (مقدس) بالاستعاضة ، حتى وإن كان فاسداً أو مجرماً أو ممن لا خلاق ولا أخلاق له .

ومن هنا جاءت (القدرة العملاقة) في قابلية واستطاعة (رجال الدين وعلماءه) على (رفع) أو إسقاط أو (تسقيط) أي فرد من أفراد المجتمع (اجتماعياً أو سياسياً) مهما بلغت مكانته الاجتماعية أو درجته العلمية أو الأكاديمية ، لمجرد تعارضه معهم ، أو نقده لطروحاتهم ، أو الخروج عن (طوقهم) ، بسبب قدرتهم على التأثير في أفراد المجتمع (الجهلة خصوصاً) وعلى جميع الأصعدة .

ومن هنا أيضاً جاء امتلاكهم (الغريب) للمؤهلات العلّيـّة (وليست العلمية) التي تمنحهم صلاحية التدخل في قرارات وسياسة الدول ، وإذكاء الحروب ، وحتى إن كانت مؤهلاتهم (وهمية) وأثبتت فشلها ، فلا موجب للقلق من ذلك ، حيث سيتولى أتباعهم ومريدوهم وذيولهم المهام (التطوعية) في تبرير هذا الفشل ، وربما تحويله إلى (منجز) يتغنون به على أنغام (الجهل المقدس) ، وسيستمر الخوف والخشية من (غضب) رجال الدين وعلماءه مكتنزاً في العقول الباطنة ، لأنه يمثل لدى البعض موجباً ومدعاة لغضب الله .

وصحيح جداً أن هناك البعض من رجال الدين وعلماءه من يبحث في غالبية العلوم الأخرى ، لتطوير نفسه ، أو لحاجته إلى بعض العلوم التطبيقية والمختبرية في إضفاء النجاح على استنباطاته الشرعية ، فيصبح بذلك (موسوعياً) ، ولكن هذه الموسوعية لا تمنحه صفة أن يكون (عالماً) أو ملماً أو متخصصاً بكل العلوم ، وقد أشار الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة حين سأله أحد جلساءه قائلاً :- يا ابن رسول الله ، أيكون العالم جاهلاً ؟؟ فقال له الإمام الصادق (عليه السلام) :- نعم ، يكون عالماً بشيء وجاهلاً بشيء .

وهذا ما لا يريد استيعابه أو فهمه أصحاب (الجهل المقدس) ، الذين يعتبرون (مرتدي الزي الديني) هو نسخة (طبق الأصل) من الله ، أو هو (الممثل الشرعي والحقيقي) لله سبحانه على الأرض ، أو يعتبرونه هو (حارس المرمى) الذي يتولى صد الكرات التي تستهدف (معتقداتهم) ، وهو المنافح عن الشخوص التي يتعبدون بها (من دون الله) ، غير منتبهين إلى أن بعض الافراط والتفريط في الاتباع هو نوع من أنواع (عبادة الأصنام) التي لم يستطع الأنبياء القضاء عليها ، فتحولت الأصنام (الحجرية) إلى أصنام (بشرية) .