23 ديسمبر، 2024 10:22 ص

الجواهري والمكان !!

الجواهري والمكان !!

فاجأني أحد الأخوة الإعلاميين بسؤال : لماذا كتب الجواهري شعرا عن مدن الدنيا العربية والأجنبية؟!
فقلت أن إلتصاق الجواهري بمدينة النجف , وتشربها في عروق خياله وأعماق وجدانه , أهّله لإمتلاك الطاقات التعبيرية عن المكان الذي يحلّ فيه.
فلا يمكن للإنسان أن يرى الأماكن ويستوعب جمالها , وقيمتها الإنسانية , إذا لم يعرف قيمة المكان الذي وُلد وترعرع فيه.
فلكي تمتلك إبداع المكان ووحيه الفياض , لا بد من إلتصاق حقيقي بمكان النشأة والتخلّق والصيرورة الأولية , لأنها تبني رؤية دفاقة , وترابطات عُصيبية ما بين خلايا الدماغ اللازمة لإستحضار آليات الإبداع والعطاء الجميل.
فالعلاقة ما بين الدماغ والمكان , كعلاقته باللغة , فالذي لا يتعلم اللغة الأم بصورة صحيحة وسليمة في طفولته , لا يمكنه أن يفكر بوضوح وقدرة على التأثير والتفاعل مع المحيط , والتطورات والتفاعلات الحاصلة من حوله , ويبقى يمتلك درجة خفية من العوق التعبيري والتواصلي مع المنبهات القادمة إليه.
فالعلاقة ما بين الإنسان والمكان , إبداعية وتأهيلية لإطلاق القدرات الكامنة في العقل والنفس والروح , والتي تؤسس لمعاني (وعي المكان) وإدراك مفرداته , وعناصره المؤلفة للوحة الحياة الخالدة.
وأكبر المبدعين في تأريخ البشرية , هم الذين أوجدوا هذه العلاقة , أو توفرت لديهم فرصة التفاعل الحي المتوقد , مع مكان إنطلاقهم منذ الطفولة وحتى الصبا , بكل ما تعنيه وتشير إليه من طاقات إنفعالية وإدراكية وثقافية , لازمة لصناعة إرادة ووحي المكان في الأعماق , وحالما يتحقق ذلك , يكون الشخص مؤهلا لتوظيف أدواته المكانية في التواصل مع أي مكان يحلّ فيه.
فحبّ المكان سلوك يتعلمه الإنسان في بداية عمره , ويحمله إلى أرض الدنيا الواسعة , ويكون تفاعله مع أية بقعة أرضية , منبثقا من تلك الآليات الراسخة في دنياه , والمتنامية بنضجها وقدرتها على التعبير , بالممارسة والتكرار.
فالجواهري , إنطلق متغنيا بالنجف بما تحويه من طاقات تاريخية وثقافية وروحية وبيئية وإجتماعية , فأنشد لسامراء وبغداد والعراق بأسره , ولدمشق ومصر وغيرها , وأبدع كثيرا في (براغ) , المكان الذي أحبّه , فتواشج عشقه النجفي بعشق مدن الدنيا بأسرها , لأنه حقق التواصل ما بين المكان الذي ولد فيه والذي يعيش فيه.
وفي هذا الترابط علاقة نفسية وفكرية وعاطفية ذات قيمة إبداعية متميزة.
وكثيرا ما يتحقق الإبداع المكاني وفقا لآليات التمني والمقارنة بين الأماكن , التي يكون مقياسها مكان النشأة وبدء الحياة الواعية بمحيطها.
فلكي تكون مبدعا حقيقيا عليك أن تتعلم كيف تلتصق بمكان وجودك الأصيل!!