26 ديسمبر، 2024 1:04 م

الجنين يستنطق حقائقه بلسان الشرع والقانون والطب الحديث

الجنين يستنطق حقائقه بلسان الشرع والقانون والطب الحديث

“حقوق الجنين على ضوء الشريعة والطب الحديث” .. بهذا العنوان كنت قد نشرت في مايو ايار عام 2008م دراسة هي بمثابة قراءة موضوعية لكتاب “شريعة الجنين” للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، تطرق مؤلفه الى موضوعات حديثة متعلقة بالجنين وحقوقه كنطفة مخلّقة الى إنسان سوي، وتناول لأول مرة مسألة استئجار الرحم كحاضنة لنطفة مخلّقة لأب وأم شرعيين، وتابع الفقيه الكرباسي الموضوع الحساس من الناحية الشرعية والعلاقة المتبادلة بين الشرع والطب، وما يترتب على ذلك من حقوق وكفارات وديات فيما إذا تعرض الجنين الى الإسقاط وفق المراتب الثلاث: الإسقاط العمد وشبه العمد والخطأ.

كتاب “شريعة الجنين” الذي يشكل حلقة من سلسلة من ألف عنوان يلاحق الفقيه الكرباسي مسائلها وأحكامها الشرعية في إطار كتيبات صدر منها حتى الآن نحو 50 شريعة في عناوين مختلفة تناقش المسائل اليومية المبتلى بها في مجالي المعاملات والعبادات، لفت إنتباه الباحث العراقي الدكتور وليد سعيد البياتي فاستعرضه بالشروحات بأبعادها الفقهية والطبية والقانونية، ومقارنة أحكامها في دائرتين، الأولى: دائرة المذاهب الإسلامية، والثانية: دائرة القوانين والتشريعات المدنية في البلدان العربية والغربية، فظهر إلى الأسواق كتاب: “حقيقة الجنين دراسة ابستمولوجية تحليليلة في شريعة الجنين عند الفقيه الكرباسي” الصادر حديثا عام (2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 503 صفحات من القطع الوزيري، ناقش بالتفصيل (146) مسألة فقهية أبان الفقيه الكرباسي حكمها  وصدر عام 2008م في 112 صفحة من القطع المتوسط.

 

مآرب ومشارب

ما يلفت النظر في كتاب “حقيقة الجنين” الذي أجهد المؤلف قلمه في توثيق الأحكام المتعلقة بالجنين حسبما أبانها الفقيه الكرباسي، تشريعيا وطبيا وقانونيا وعرفيا، كثرة المصادر والمراجع في مجال الشريعة والطب والقانون، ولكن ما يثير الإنتباه أكثر فأكثر أن عدداً غير قليل من هذه المصادر هي للفقيه الكرباسي اعتمدها الدكتور البياتي زيادة في توضيح المسألة الفقهية من جوانبها المختلفة.

وقد أمكن توثيق المصادر التالية العائدة للفقيه الكرباسي: (1) الجزء الأول من كتاب “الحسين والتشريع الإسلامي” الصادر عام 1421هـ (2000م)، وهو أحد أجزاء دائرة المعارف الحسينية التي بلغت نحو 900 مجلد صدر منها حتى اليوم 86 مجلداً، (2) شريعة الحيوان (مخطوط)، (3) الفلسفة الضائعة (مخطوط)، (4) شريعة الجن (مخطوط)، (5) شريعة الهجرة (مخطوط)، (6) شريعة الكعبة (مخطوط)، (7) شريعة القبلة (مخطوط)، (8) الجزء الأول من كتاب “أضواء على مدينة الحسين” الصادر عام 1432هـ (2011م)، وهو أحد أجزاء دائرة المعارف الحسينية، (9) شريعة النكاح، الصادر عام 1435هـ (2014م)، (10) شريعة الغُسل (مخطوط)، (11) المرأة والدماء الثلاثة، الصادر عام 1427هـ (2006م)، شريعة الحقوق (مخطوط)، (12) شريعة الذنوب (مخطوط)، شريعة التوبة، الصادر عام 1433هـ (2012م)، (13) الجزء الأول من كتاب “العامل السياسي لنهضة الحسين”، الصادر عام 1428هـ (2007م)، (14) شريعة التحرير (مخطوط)، (15) شريعة العبودية (مخطوط)، (16) شريعة السجن (مخطوط)، (17) الأوزان والمقاييس (تحت الطبع)، (18) شريعة الإرث (مخطوط)، (19) شريعة التكليف، الصادر عام 1428هـ (2007م)، (20) شريعة الخنثى (مخطوط)، (21)  شريعة الديّة (مخطوط)، (22) شريعة الدفن (مخطوط)، (23) شريعة الإرث (مخطوط).

إن اتساع رقعة المصادر التي اعتمدها الدكتور البياتي بالعودة إلى مؤلفات صاحب (شريعة الجنين) يكشف في حقيقة الأمر أشياء عدة، أهمها:

أولا: حجم الموسوعية والمعرفة المتنوعة التي امتاز بها الفقيه الكرباسي بحيث كان له حضوره الفقهي في كل مسألة من مسائل الحياة، ناهيك عن موسوعيته في النهضة الحسينية التي أفرغ وسعه ووقته في توثيقها حتى صارت “دائرة المعارف الحسينية” في صدارة الموسوعات المعرفية. وفي هذا الإطار يقول المؤلف في المقدمة: (كان شيخنا الفقيه آية الله محمد صادق الكرباسي قد تعرّض للأحكام الشرعية للجنين في كتابه شريعة الجنين حيث كان الجنين قضية من ألف قضية تعرض لها شيخي وأستاذي الفقيه الكرباسي في سلسلة الشرائع التي وضعها ليُبيّن موقفه التشريعي من حركة الحياة بكل ما تحمل من قضايا متنوعة يعرض فيها رأيه في الحكم الشرعي بما يمكن اعتباره طروحات حديثة في فهم الأحكام الشرعية)، وعندما يتوغل في البحث وخاصة في مجال كفارة الإجهاض يعود ليؤكد: (كنت قد راجعت الرسائل العملية للعديد من فقهاء ومراجع الشيعة القدامى والمعاصرين ولم أجد أحداً التفت الى هذه القضية بالتفصيل الذي ذهب إليه الفقيه محمد صادق الكرباسي في شريعة الجنين).

ثانيا: يعكس الحضور الفقهي لكل مسائل الحياة حيوية الفقه الإسلامي وديمومته، وهو بحاجة الى فقهاء دين وحياة متمرسين على التفريع بما لدى المسلمين من الأصول، وفي هذا يضيف المؤلف: (لا شك أن البناء الفقهي عند الفقيه الكرباسي يتبع بالأساس المدرسة الحوزوية العريقة، إلا أنه أفاد كثيراً من تجاربه الحياتية وسعة اطلاعه ليؤسس مدرسة تشريعية معاصرة تستلهم المنهج العريق للحوزة العلمية ولتلقي نظرة فاحصة على المناهج العلمية المعاصرة مما مكنه من أن يتفرد بطروحاته التشريعية باعتباره أحد مشاهير مجددي المنهج التشريعي المعاصر).

ثالثا: لم يكتف الدكتور البياتي بما خطه الفقيه الكرباسي في “شريعة الجنين”، بل عمد الى التوسع وتحليل المعلومات بالعودة الى المصادر والمراجع العامة، وما تركه الفقيه الكرباسي من مسائل فقهية وآراء متنوعة المآرب متوزعة في كتاباته المختلفة المشارب. ولكن العمل الفقهي للكرباسي كما يؤكد البياتي: (عملاً تأسيسياً متفرداً يحتاج الى بحوث معمقة تشرح مواقفه في فهم القضايا التشريعية وتطبيقات أحكامها، وتبيان عللها، ومسبباتها)، من هنا فإن “حقيقة الجنين” كما يشير مؤلفه في الخاتمة: (دراسة قد تشكّلت من عدد كبير من البحوث العلمية المختلفة، شملت مساحة واسعة من عدد من العلوم منها علوم الإنسان، وعلم البايولوجي، وعلم الأجنّة، وعلم التشريع، وعلم التاريخ، وعلم القانون، وعلم الإجتماع وغيرها، وألقت الضوء على جوانب في علم الأخلاق والبيئة والتكييف الإجتماعي والنفسي)، وهذه العلوم تغطي لغة واصطلاحا مفردة “أبستمولوجيا” التي أوردها المؤلف في العنوان الفرعي للكتاب، وتعني “نظرية المعرفة”.

 

أبواب وفصول

تظهر المنهجية التي اتبعها المؤلف رغبة في التأصيل لحياة البشرية على وجه الأرض إيذاناً بالدخول الى موضوعة الجنين ومراحل تكوينه وحقوقه في داخل رحم الأم، وهي مقاربة لطيفة بين الرحم كحاضنة للجنين والأرض كحاضنة للإنسان والبشرية، من هنا جاء الباب الأول من ضمن ثلاث أبواب في اثني عشر فصلاً، ليتناول النظريات التي تتحدث عن نشأة الإنسان ومراحل التطور الجنيني والمسائل الأولية الخاصة بالجنين.

وقد تابع البياتي في الفصل الاول من الباب الاول النظريات القائلة بظهور الإنسان على الأرض نافياً نظرية التطور التي قال بها دارون معتبراُ: (إن تشابه بعض مراحل الأجنة في الحيوانات ليس دليلاً على نظرية التطور بقدر ما هو تأكيد على منهجية الخلق التكويني)، مفصلا ومحللاً للقول في نظرية الأصل الأفريقي، ونظرية الأصل الآسيوي، ونظرية الإنسان العراقي، ورغم وجود دلالات على النظرية الأخيرة، بيد أن المؤلف يرى: (إن القول بأن المنشأ البشري كان في العراق أصلاً، يفتقد هو أيضا إلى الوثاقة العلمية باعتبار أن ظهور الإنسان كان أقدم من بداية نشوء أقدم حضارة في بلاد الرافدين)، ولكن من المؤكد أن مدينة النجف الأشرف في العراق تضم مرقد أبي البشرية النبي آدم(ع) والأنبياء نوح وصالح وهود وغيرهم.

وفي هذا الإطار يناقش البياتي ما كان الكرباسي قد سجله في التمهيد بالنسبة للعلاقات التي تحكم الإنسان، لأنها تنظم سبل الحياة السليمة على وجه البسيطة، بما فيها الجنين نفسه، وهي تتحرك في ست دوائر مترابطة: علاقة الإنسان بخالقه، علاقته بنفسه، علاقته بنظيره، علاقته بمجتمعه، علاقته بالدولة ومؤسساتها، وعلاقته بالبيئة.

وسبق للفقيه الكرباسي أن استغرق شرحاً لهذه العلاقات في الجزء الأول من كتاب “الحسين والتشريع الإسلامي” الذي صدر قبل ثمانية أعوام من صدور “شريعة الجنين”، للأثر الكبير التي تركته مجمل العلاقات على مسيرة الإنسانية.

ولما كان موضوع الجنين وحقوقه على قدر كبير من الحساسية كما يؤكد المؤلف بلحاظ أن: (الجنين هو كيان إنساني في مراحل التطور، كما انه حقيقة تكوينية ووجودية لا يمكن نكرانها، ومن هنا تبرز أهمية دراسة الموقف القانوني والتشريعي منه)، ولكن قبل أن يدخل في صلب الموضوع القانوني والتشريعي فانه تتبع في الفصل الثاني من الباب الأول “مراحل تطور الجنين” مع صور حديثة بالرجوع الى مصادر علمية وطبية، ليخرج بحصيلة مهمة عززها الإعجاز العلمي للقرآن الكريم الذي تحدث عن مراحل تكون الجنين قبل خمسة عشر قرناً قبل أن يأتي العلم الحديث ليقف مذهولاً أمام حقيقة قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) سورة المؤمنون: 12-14. وهذه هي عين مراحل: النطفة، النطفة الأمشاح، العلقة، المضغة، تكوين العظام، شدّ اللحم، والخلق الآخر، أي الإنسان الكامل كما أظهرتها الصور الصوتية (سونار).

ولما كان الفقيه الكرباسي قد تابع المسائل الفقهية المتعلقة بهذه المراحل في 16 مسألة، فإن الدكتور البياتي ناقشها على ضوء العلم الحديث والتشريعات الخاصة بالأديان الأخرى والقوانين الحديثة في الفصل الثالث والأخير من الباب الأول.

وقد يتبادر للذهن بأن الواجبات والحقوق تأخذ دورها في حياة الإنسان مع سن البلوغ، وهي إن كانت في مسائل عدة على علاقة بالبلوغ، ولكنها مع الإنسان ككائن محترم تبدأ من النطفة ولا تنتهي مع الممات، فحتى للإنسان ما بعد مرحلة الحياة حقوق في ذمة الورثة والمجتمع.

وهذه الحقوق يتابعها الدكتور البياتي في أربعة فصول من الباب الثاني، وفق ما عرضها الفقيه الكرباسي من مسائل فقهية، فاختص الفصل الأول بـ “حقوق الجنين” في اثنتي عشرة مسألة فقهية، والثاني بـ “سلامة الجنين” في خمس مسائل فقهية، والثالث بـ “الجنين والرحم المُستأجر” في مسائل فقهية ثمان، والفصل الرابع والأخير من الباب الثاني بمسائل “الإنتساب” في خمس مسائل فقهية. ويخلص البياتي في مجال الأجنة والحاضنات الطبية ومسائل استئجار الرحم الى القول: (لعلّ هي المرّة الأولى التي يتعرض لها الشرع الإسلامي لها، فقضية نقل الأجنة الى الحاضنات لم تناقش فقهيا كما فعل الكرباسي في تبيان أحكام شريعة الجنين، فهذه القضايا كغيرها تحتاج الى توصيف تشريعي فقهي كما تحتاج الى تكييف قانوني، باعتبارها من القضايا المستحدثة والتي لم تناقش سابقاً).

وتناول البياتي في الباب الثالث والأخير في خمسة فصول التكييفات الشرعية والقانونية للإسقاط أو الأجهاض في مراتبه الثلاث: العمدية وشبه العمدية والخطأ، فاختص الفصل الأول بمناقشة مسائل “الإسقاط” كما أوردها الفقيه الكرباسي في أربع عشرة مسألة فقهية، والثاني بمسائل “الإثم والكفارة والدِّية” في ست عشرة مسألة فقهية، وتوسع في الفصل الثالث في مسائل “الديات” في اثنتين وثلاثين مسألة فقهية، وفي الرابع بمسائل “موت الجنين” في اثنتي عشرة مسألة فقهية، والفصل الخامس والأخير من الباب الثالث والأخير متعلق بمسائل “الإرث” في مسألتين فقهيتين. لينتهي الكتاب بذكر الآيات الواردة في القرآن الكريم المتعلقة بالجنين بكل مراحله كما وردت في “شريعة الجنين”، وكذلك الأمر في سرد الروايات التي أوردها الفقيه الكرباسي ذات العلاقة المباشرة بالجنين.

ويسجل الدكتور وليد سعيد البياتي في خاتمة “حقيقة الجنين” مجموعة ملاحظات هي بمثابة حقائق أثبتها الإسلام لصالح الجنين لم تعر لها بعض التشريعات أهمية، فلم تتعامل مع الجنين ككائن حي له حقوقه حتى وإن لم يملك لساناً يطالب بها أو يداً يسترجعها ممن غصب حقه، حيث أوضحت المسائل الشرعية كما يؤكد البياتي: (إنّ الجنين كائن كامل مستقل حتى وهو في رحم الأم، فإن التشريعات القانونية قد منحته الأهلية، فهو يمتلك صفة قانونية مستقلة، ويتمتع بكل الحقوق التي منحتها له الشريعة السماوية منذ بدء التكوين وحتى الخروج الى الحياة).

في الواقع يمثل كتاب “حقيقة الجنين” إضافة متميزة للمكتبة العربية والإسلامية، للجهد الذي بذله الدكتور البياتي في استنطاق المسائل الفقهية بلسان الشرع والطب والقانون والعلم الحديث على ضوء ما أورده المحقق والفقيه الكرباسي في “شريعة الجنين”.

أحدث المقالات

أحدث المقالات