“التضييق والإذلال الذي كان يعاني منه الجيش في زمن الطاغية آنذاك، كانا سببا؛ لامتعاض معظم أفراد الجيش العراقي السابق وإشمإزازهم من الوضع المفروض على رقابهم كواقع حال، ونفورهم من الخدمة، وتقاعسهم عن أداء الواجبات”
فكان أحد منتسبي ذاك الجيش ، ممتعضا ومشمإزا من الوضع المزري الذي يعيشه في تلك الأجواء في عهد الصنم، ذلك بسبب التضييق والإذلال الذي كان يعاني منه الجيش آنذاك، بسبب عدم وقوفه مع الصنم-أي الجيش- باخلاص في محاولاته العدوانية الحربية الطائشة والقمعية ضد دول الجوار والشعب.
فحاول هذا العسكري أن يجد طريقة ما، ملائمة للتسريح حتى ولو باحدى الطرق المسلوكة آنذاك ، فلم يفلح.
فحاول جاهدا أن يتظاهر على أنه مصاب بمرض عقلي، ومن ساعته صار أن يجمع كل ورقة تصادفه في طريقه، وعند تواتر الأيام وهو على هذه الحال أصبح مريضا عقليا وبشكل عرفي، وصار عنده مجموعة اكياس مليئة بهذه الأوراق، وهو بطبيعة الحال مهتم بحملها على أكتافه وبشكل يجلب الأنظار.
انتشر خبره بتلك الاوساط، وبعد اللتيا واللتي… عرض على لجنة طبية في أحد المستشفيات العسكرية، فحملوه في سيارة لإيصاله إلى هناك، فأبى واستعصم إلا أن تحمل أكياسه معه.
ادخل المستشفى وهو على هذه الحال ، فأصدرت اللجنة المختصة قرارا باخراجة من الجيش لأسباب صحية وتصفية حقوقه التقاعدية وعلى الفور.
وتسلم الورقة المتضمنة لهذا القرار -بعد عدة جلسات ورقودات تخللتها حملات جمع الأوراق المتناثرة في المستشفى ساهمن في زيادة حجم حمولته من الاكياس- فانقلب من المستشفى إلى اهله فرحا مسرورا مسرعا.
ولما وصل إلى مرآب السيارات ليعود إلى اهله، ترك تلك الاكياس في المكان الذي ركب منه في السيارة .
اذاع صاحب الباص على مسافريه متسائلا عن عائدية تلك الاكياس؟ ظنا منه باحتمال نسيانها من قبل أحد المسافرين، فانبرى قائلا:
نعم ، انها لي .
قال السائق: ومابها، ولم تركتها؟
فأجاب: فيها أوراق لم أكن بحاجة إليها؟
قال آخر: ولماذا؟
قال:” لإنها لم تعد تنفعني بشئ يذكر ،لانتهاء مدة صلاحيتها، ولأني عثرت على هذه الورقة التي افنيت من أجلها بضع من سني عمري وسعادتي وراحتي طيلة تلك الأيام المنصرمة” وحملها بيده وأومأ بها للإعلى ليراها المسافرون.
نستعبر من هذه القصة، عدة دروس كان من أهمها درس الإصرار، وإصرار هذا الرجل حدا به أن يبتكر حلا وفق طريقته الخاصة، للتخلص من العيش الضنيك تحت وطأة نظام الصنم الشمولي، وقد أفلح بطريقته تلك.
ودرسا آخر، النهاية المحتومة لنا جميعا وهو أن الرحيل من هذه الدنيا الفانية والذي لابد منه،إذ تحتم علينا مغادرة جميع ميادين الحياة ، بعد اداء الدور الموكل لكل واحد منا ، وبورقة أشبه بورقة هذا الرجل، الذي نفعته بمغادرة الوضع الذي كان لايطيقه ، والفرق بين هذه وتلك، أنها ورقة الوفاة عندما تكون المغادرة من الحياة ، تاركين بذلك جميع ما سعينا لجمعه وحمله على أكتافنا لمن وراءنا للتوريث كأكياس هذا الرجل .
ودرس آخر، هو الابتكار أو الاجتهاد للتخلص من حالة الظلم ، والتي كان يعاني منها العراقيين جميعا تحت وطأة النظام الجائر ،وحالة القمع بالحديد والنار ، وبمصادرة الحريات وتكتيم الأفواه، ماحدى بالناس بأبتكار شتى الطرق للتحرر من عبودية ذلك النظام ، وكل بطريقته الخاصة ، ولكن لو أن الشعب سلك نفس طريقة هذا الرجل للتخلص من قبضة النظام لصار أغلب أبناء الشعب العراقي مجانينا.