كنت، ولا زلت، اعتقد بأن الجنرال ديفيد بترايوس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية (سي أي أيه) من المسؤولين والخبراء الأمريكيين الذي يمتلكون دراية كبيرة بتفاصيل المشهد العراقي المعقد منذ الغزو الأمريكي في مارس 2003. وهذه الدراية تبدو أحياناً كسلاح ذي حدين؛ فقد تغذي أي توجه سياسي حقيقي لانتشال العراق والعراقيين من دوامة الاخفاق المتكرر الذي يعانونه منذ سنوات مضت، والمساعدة في إيجاد بدائل فاعلة للتصدي لخطر تنظيم داعش الارهابي في سوريا والعراق على حد سواء، ولكنها قد تدفع أيضا باتجاه العمل على إطالة أمد الأزمات الحاصلة في العراق وسوريا وتفاقمها وإضافة مزيد من التعقيدات إليها.
ومنذ أيام مضت، خرج الجنرال بترايوس بعد فترة صمت ليست طويلة ليدعو بلاده إلى ضم “بعض مقاتلي” جبهة النصرة التابعة لتنظيم “القاعدة” الارهابي إلى التحالف الموسع الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة تنظيم داعش في سوريا!.
وعلى خلفية هذه التصريحات المثيرة للجدل والشكوك معاً، انقسم وجهات النظر إعلامياً ودارت النقاشات وزاغت الأعين والأبصار واستنفرت المخاوف والهواجس،
واستدعى الكثيرون نظرية المؤامرة من أرفف الماضي القريب لملفات المنطقة المعقدة، وهذه في مجملها ردود أفعال طبيعية على ما يعتبر موقف لافت للأنظار في مسؤول أمريكي من طراز رفيع، حتى ولو أضيف إلى لقبه كلمة “سابق” التي لا تغير في الأمر الشىء الكثير في ظل خبرة التعامل مع الولايات المتحدة، واحتفاظ المسؤولين السابقين فيها بأدوار غير رسمية ربما تفوق نظرائهم الرسميين!!
لا أستطيع شخصيا، الاقتناع بالفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة وجيشها وقواتها الأكثر تطوراُ وتقدما وفاعلية في العالم، على المستويات كافة، قد عجزت عن وقف تقدم تنظيم “داعش” وتلجأ إلى الاستعانة ببعض مقاتلين من تنظيم “القاعدة” الارهابي، العدو اللدود للولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة “داعش”! بل إنني شخصيا اتشكك في نوايا الجانب الأمريكي إزاء توغل الفكر الداعشي الارهابي وتوسعه على حساب أراضي دولتي العراق وسوريا وقضمه الكثير منها، منذ أن توالت تصريحات وتأكيدات المسؤولين الأمريكين بأن البغدادي ورفاقه يحتاجون إلى قتال قد يمتد إلى عشر سنوات للقضاء عليهم، فلا استطيع ابتلاع هذا التقدير الاستراتيجي غير المنطقي بل المفضوح، الذي يكشف بشكل فج عن نية أمريكية مبيتة لابقاء أسطوانات الأوكسجين لانعاش خطر هذا التنظيم واعتماد رسمياً “فزاعة” جديدة للعديد من الدول العربية والاسلامية طيلة العقد المقبل على الأقل التقديرات!!.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنني لا أجد في تصريحات الجنرال بترايوس سوى خلط جديد للأوراق في المنطقة واستدعاء لأفكار وبدائل قديمة ثبت فشلها، وليست بحاجة إلى اختبار جديد للتأكد من كارثيتها وغبائها، إذ لا يمكن لعاقل أن يسلم بفكرة وجود
“معتدلين” في صفوف “القاعدة” وإلا فإن الولايات المتحدة نفسها تصبح متهمة بملاحقة ومطاردة من تعتبرهم عناصر معتدلة في صفوف “القاعدة”، كما لايمكن لعاقل أن يمكن أن يقتنع بأن تنظيماً ارهابياً عالمياُ بالغ الخطورة مثل “القاعدة” يمكن أن يضم بين صفوفه عناصر “معتدلة” قابلة للانخراط ضمن تحالفات سوية تسعى إلى ملاحقة الارهاب والتطرف الداعشي!!
هذه المعلومات البديهية لا تغيب عن العقل التخطيطي الأمريكي، الذي لا أشكك في ألمامه بحقائق الأمور، إن لم يكن امتلاك المقدرة على توجيهها لمصلحته باستخدام أدوات مختلفة مباشرة وغير مباشرة، ومن ثم يصبح الخضوع لأي توجه أمريكي في هذا الشأن يعد بمنزلة مجازفة استراتيجية معروفة النتائج مسبقاً، فمن الحماقة أن يبيت المرء بجانب حيوان مفترس!!
ضمن تصريحاته هذه، يقول الجنرال بترايوس أن هناك عناصر انضمت إلى “جبهة النصرة” لدوافع انتهازية وليست أيديولوجية، وأن على الولايات المتحدة استقطاب هذه العناصر أو استمالتها أو استخدامها بشكل ما، وبافتراض صحة هذه المقولة فإنها تضعنا بشكل واضح امام تساؤل مشروع حول كيفية “فرز” وانتقاء العناصر الانتهازية في صفوف “جبهة النصرة” واستبعاد العناصر المؤدلجة؟ وماهي الضمانات لعدم حصول كارثة بحصول عناصر ارهابية مؤدلجة وذات علاقة تبعية أصيلة ومتجذرة للقاعدة على السلاح والأموال والدعم اللوجستي والتدريبي الذي يفترض أن تتلقاه العناصر التي سيتم تجهيزها وإعدادها للقتال ضد تنظيم “داعش” في سوريا؟.
لا أحد يشكك في خبرة الجنرال بترايوس بالحالة العراقية تحديداً، حيث اكتسب ثقة عالية به منذ أن نجح في تعديل كفة الأوضاع في العراق عام 2007 بنشر نحو 30 ألف جندي الأمريكي تمكن من خلالهم، وعبر اقناع قادة العشائر السنية العراقية بعدم التعاون مع تنظيم “القاعدة”، ليتمكن من استعادة زمام المبادرة، وانقاذ الخطط الأمريكية في العراق، ولكن هذه الخبرة القتالية الكبيرة قد لا تنقذ بترايوس عند اقتراح حلول وبدائل استراتيجية فاعلة في التصدي لتنظيم “داعش” الارهابي، حيث عاد طارحاً فكرة لا تقل في انتهازيتها عن انتهازية العناصر الارهابية التي يستهدف إشراكها في القتال ضد “داعش”. والخطورة هنا لا تكمن فقط في انتهازية الطرح، فالحرب في الأخير خدعة، بل في عواقبه الكارثية واحتمالية انضمام هذه العناصر الانتهازية إلى من يدفع لها يمولها مستقبلاً، ناهيك عن سقوط غطاء القيم الأخلاقية التي نسعى إلى أن تتدثر بها الحرب ضد الارهاب، بتقسيم الارهاب وعناصره إلى إرهاب حميد وإرهاب “مسرطن”رغم أن الارهاب له وجه واحد قبيح ولا يمكن مطلقاً لعاقل أن يقبل بأن يمد يديه للتعاون مع تنظيم إرهابي حتى لو الغرض هزيمة تنظيم إرهابي أشد خطورة!!!.