18 ديسمبر، 2024 5:09 م

قصة قصيرة
إبتسامة مع قطعة حلوى لأخته الصغيرة، كانت هذه هديته للعائلة كلما جاء إلى البيت في إجازة من جبهة القتال.
لكن الجندي الثلاثيني هذا، لم يكن كعادته هذه المرة.
دخل غرفته وأغلق الباب، والتوتر واضح عليه.
بعد لحظات، طرقتِ الأم القلقة الباب واستأذنته بالدخول.
الأم : ما بك يا عزيزي ؟…
الإبن : لا شئ، أشعر فقط ببعض التعب والإرهاق.
الأم : أخبرني يا بُنَي، لماذا أنت متوتر إلى هذا الحد ؟…
الابن : لأنني أحس كل مرة أعود فيها إلى الجبهة بعد انتهاء إجازتي، وكأنني قاتل وجبان.
جبانٌ، لأنني أتقبل الإهانات من الضباط، ومع ذلك أقوم بأداء التحية لكل حقير يتبختر بِرتبته العسكرية السخيفة.
وقاتل، لأنني أقوم بتنفيذ أوامر هؤلاء السفلة، حيث أحمل بندقيتي وأذهب كالاغبياء لأقتل شخصاً لا أعرفه أبداً.
لقد كَرهتُ نفسي يا أمي، وكرهتُ كل المعارك والحروب، كل القادة والجنود، وكل ترسانة القتل القذرة هذه، التي يتفنن بها الإنسان لقتل أخيه الإنسان.
ولَطالَما حَلِمتُ يا أمي، بِعالم خالٍ من السلاح ومن سَماسرة الحروب، وحتى من الزي العسكري المُرعب، الذي أصبح نذير شؤم على المَدَنيين أينما حَل.
أحلم يا امي بِعالَم يكون فيه السِّلم والسلام، هو الخيار الوحيد أمامَ كل الجنود الذين يَتَربَّصون ببعضهم على طرفي خط النار.
أحلم بهؤلاء الجنود، وكأنهم يضعون سلاحهم جانباً ويخرجون من خنادقهم، يتصافحون ويتعانَقون بحرارة المشاعر الإنسانية، لا بحرارة البارود.
وذلك رغم أنف قادتهم من كبار الضباط، الذين لا يُجيدون سوى لغة الغَطرسة والتكبُّر، والبطش والقتل وسفك الدماء.
أحلم يا امي بعالم مُسالِمٍ، يحمل شعار : صفر حرب = لا حرب بعد اليوم و …
قد تَرَينَ حُلمي هذا مستحيلاً يا أمي !!…
لكنني واثق من أنه سيتحقق يوماً ما.
هل تعرفين متى ؟!!…
سيتحقق حلمي هذا حتماً، حينما :
[ يصل وَعيُ الجندي إلى أن يَحتقر السلاح وحامِل السِّلاح.
وحينما يَتيقنُ الجندي، أن الإنسان أهم وأغلى من قطعة القماش الملونة هذه التي تُرفرف فوق رؤوسنا، والتي تسمى بالعَلَمْ.
وحينما يقتنع الجندي، أن الإنسان أهم ايضاً من هذه الخطوط المُتَعرجة المتصلة مع بعضها على الورق، التي تَفصل بين إنسان وإنسان، والتي تسمى مَجازاً بالوطن ].
لكن حتى يأتي ذلك اليوم، سيبقى الجيش وللأسف، سِجناً للوطن، وليس سوراً له كما يُقال.
المؤسسة العسكرية عندنا يا أمي لا تتعدى كونها سَوطاً بيد الحاكم، يَجلد به الشعب في الداخل، ويجبره على خوض حرب عبثية طاحنة مع البلد الجار.
إنها باختصار :
[ حلقة كبيرة من الجُبناء يُطلق عليهم الضباط، تُحيط بهم حلقة أكبر من الأغبياء يُطلق عليهم الجنود.
ومن قَلبِ هاتين الحلقتين، يُقرِّر الديكتاتور مصير البلاد والعباد ].
لِيَختم الإبن المُرهَقُ كلامه هذا مع أمه، بقول يُنسب إلى الشاعر والكاتب الفرنسي بول فاليري، حيث يقول :
[ الحرب مجزرة تدور بين اُناس لا يعرفون بعضهم البعض، لِحِساب اُناسٍ آخرين يعرفون بعضهم البعض ولا يقتلون بعضهم البعض ].
ومع آخر كلمة يَتلفظها من قول الشاعر، استلقى الشاب على السرير بملابسه العسكرية دون حِراك، وغاصَ في نوم عميق.
بدورها، غَطّت الأم إبنها بغطاء المَحَبَّةِ حتى قبل غِطاء الدِّفء، قَبَّلَته من جبينه، ثم خرجت وأغلقت الباب بهدوء.
===========