18 ديسمبر، 2024 6:49 م

الجنة والنار: مسلسل شعبوي سرق جميع العراقيين منهمومهم اليومية لبرهة

الجنة والنار: مسلسل شعبوي سرق جميع العراقيين منهمومهم اليومية لبرهة

هل كل كسر للقواعد التقليدية في الدراما  هو نجاح حقيقي ؟ وماذا لو كان هذا الكسرللمتعارف عليه فنياً يقود لفوضىوليس خلق فني جديد؟  هذا نموذج لما حصل فيالجنةوالنارالمسلسل الرائج في العراق هذه الأيام .
كان من المقرر أن يُعرض المسلسل بعنوان مغاير  “ذي قارترحب بكمخلال شهر رمضان 2024، لكن القنواتالتلفزيونية أحجمت عن شرائه لأسباب تجارية وتصنيفية. الثيمة الرئيسة للمسلسل، التي ارتبطت بقضايا طائفيةحساسة، كانت من أبرز الأسباب وراء هذا التردد. وعلىالرغم من أن المسلسل سعى إلى تقديم رؤية مختلفة، إلا أنارتباطه الوثيق بالمواضيع الطائفية جعله محل جدل وأثار ردودفعل متباينة.

يُحسب للمسلسل كسره للعديد من القواعد التقليدية فيالدراما العراقية. من استخدام التمثيل المسرحي المتكلف إلىالتغيير في عناصر المونتاج وتصميم المشاهد، قدّم المسلسلتجديدًا على عدة مستويات، حتى في موسيقى المقدمة التياستُبدلت بخطبة مسموعة لرجل الدين أحمد الوائلي. معذلك، افتقر المسلسل إلى رؤية فنية ناضجة في تعامله معموضوعات معقدة جاءت كلها في سلة واحدة لا تسعها.

التناص مع ثيمة إشكالية

أحد أبرز السلبيات المسجلة على المسلسل هو تناصه غيرالمبرر مع معركة الطف الشهيرة التي وقعت عام 61 هـ. إذحاول المسلسل إعادة صياغة الأحداث التاريخية وربطهابالشخصيات الدرامية بطريقة مربكة، مما أثار استياءالمشاهدين والمهتمين بالتاريخ الديني. هذه المقارنة غيرالمدروسة بين الشخصيات التاريخية وأبطال العمل قوبلتبرفض واسع، إذ لم تنجح في بناء علاقة منطقية بين الأحداثوالشخصيات.

مشكلات فنية و إخراجية

من الناحية الفنية، أشار النقاد إلى تشابه واضح بين هذاالمسلسل والفيلم المصريريش“، الذي حاز على جائزة فيمهرجان كان، رغم أن الجمهور المصري رفض الفيلم وغادرالسينمات في منتصف العرض. لكن المشكلة الكبرى تكمنفي أن هذه التجارب الدرامية لا تصلح لتكون هوية شاملةللدراما العراقية أو السينما المصرية، لرصانة القواعد التيبُنيت عليها لعقود. فنيًا، لا تنتهي المشكلة بقتامة الصورةورداءة تسجيل الصوت حتى استحال إلى ضوضاء وتلوثسمعي، خاصة في المشاهد الخارجية. كما كان ضعف حركةالكاميرا وعدم التناسق في المشاهد من أبرز عيوب المسلسل. فالكاميرا كانت غالبًا ثابتة، بينما يتنقل الممثلون خارجالكادرات بشكل غير مبرر، مما أدى إلى فوضى بصريةوتشتت في المشاهدة.

كذلك، لم يكن استخدام الصور المقدسة في المشاهد مبررًافنيًا، بل بدا كمحاولة واضحة لاستغلال المشاعر الطائفيةلاستجداء عاطفة المشاهدين بشكل مباشر وغير فني أوإبداعي، وهو ما أثقل على العمل وأفقده طابعه الفني. كما أنالسرد والحبكة بديا غير مترابطين، وفشلت عناصر الغرائبيةالتي تم توظيفها في إضافة قيمة للعمل، نتيجة غياب التمهيدالمناسب لهذه القفزات الغرائبية.

ضعف الأداء التمثيلي

على مستوى التمثيل، لم يكن هناك أداء مميز باستثناء بعضالممثلات اللواتي قدمن أدوارهن بهدوء وتركيز، مما جعلالمتابعين يتواصلون معهن بعقولهم لا بعواطفهم. في المقابل، بدا أداء الممثلين الذكور باهتًا وغير مقنع. فعلى سبيل المثال، قدّم أمير عبد الحسين أداءً باردًا يفتقر إلى التفاعل الحسيوالجسدي، بينما طغى الأداء المسرحي المبالغ فيه على أداءسنان العزاوي، مما أفقده التوازن مع الأحداث الدرامية وأدىإلى فقدان المصداقية. كما استعان بالصراخ والعصبيةوسرعة الحديث مع طول المشاهد الحوارية، وكان يفقدالسيطرة على اللهجة الجنوبية، فتخرج لنا لهجة بغداديةبشكل هجين مع محاولاته، التي تُحسب له، لاستعادة اللهجةبسرعة ولو بشكل تمثيلي مصطنع ومتوتر.

التناص مع شخصيات تاريخية

اللعب على موضوعةفاوستودمجها مع السرديةالكربلائية أضرّ بجوهر العمل. إذ كان التناص بين شخصيةحيدرفي المسلسل وشخصية الحسين بن علي التاريخيةغير مبرر، ولم يكن هناك توازن أو توافق بين دوافعالشخصيات الدرامية والشخصيات التاريخية. كما أنمشاهد التلامس والقبلات بينحيدروأختهزينبأثارتجدلاً واسعًا، خاصةً وأن هذه العلاقات لا تتناسب معالشخصيات التاريخية. هذا التناص بين شخصية حيدروالشخصية التاريخية الحسين بن علي، وبين الشخصيةالدرامية زينب والشخصية التاريخية زينب بنت علي، كان غيرمبرر. فلا دوافع الشخوص واحدة، ولا حتى المتخيل الشيعييسمح بهذا التناص. والأخطر من ذلك كان سحب موضوعةالطعن بالشرف في المسلسل وتطبيقها على المعادل التاريخيزينب بنت علي، التي لم تكن سرديتها مبنية، لا من قريب ولامن بعيد، على عقدة الطعن بالشرف، فهي شخصية تاريخيةلم تُبنَ سرديتها على هذا النوع من العقدة.

**فشل في تقديم بيئة الجنوب العراقي بشكل واقعي**

على الرغم من أن المسلسل كان فرصة لرؤية بيئة الجنوبالعراقي بشكل غير متكلف، إلا أن الطرح بدا سطحيًاومكررًا. فقد صوّر المسلسل الجنوب كمنطقة مليئة بالرجالالعاطلين عن العمل الذين ينخرطون في المشاكل القبلية، مماأعطى انطباعًا نمطيًا وساذجًا عن هذه البيئة. كان منالممكن تقديم الشخصيات بشكل أكثر تعقيدًا وإنسانية، تسلط الضوء على حياة الشباب في ذي قار بعيدًا عن العنفوالتقاليد القبلية الصارمة، بلا فذلكة وتحميلات تاريخية غيرمطابقة. كان من الممكن لموضوعشيطان فاوست“، أيالشخصية الدراميةفرج“، أن يكون مكتفيًا بذاته دونتداخل مع تاريخ حاد ملتهب، لا تسمح تابوهاته بتقليدهوالبناء الدرامي عليه إلا كما هو نصًا فيالتشابيهالممسرحة في موسمها في محرم.

هل أساء المسلسل للشخصيات التاريخية؟

من وجهة نظر العديد من المتابعين، نعم، إذ وقع المسلسل فيفخ تشويه الشخصيات التاريخية غير القابلة للتقليد أوالأنسنة بشكل عصري. عندما يتجاوز العمل حدوده الفنيةوينسخ الشخصيات التاريخية كما هي، فإنه يخاطر بتقديمنسخة مشوهة وغير واقعية، وهو ما حدث في هذا المسلسل. ربما فعل المسلسل ذلك عن غير قصد متعمد، فهكذا موضوعةجاذبة لها حدودها في البيئة المتدينة والمحافظة كما فيالعراق، وفي جنوبه بالتحديد. إذا تجاوز النسخ حدودقصلصقبين الحقيقي التاريخي والمتخيل، وقعت العملية فيتشويه وأنسنة الأيقونات الدينية غير القابلة للتقليد بشكلعصري في زمننا، إلا كمادة مفروزة ومعروفة مسبقًا بصفةالتشابيه الحسينية“.

ختامًا

في نهاية المطاف، أضاع المسلسل فرصة حقيقية لتقديم رؤيةمختلفة عن جنوب العراق وحياة الناس هناك. بدلاً من تقديمشخصيات واقعية ومعقدة، اختار العمل الطريق السهل الذييعتمد على الصور النمطية، مما أفقده الكثير من المصداقية. رغم محاولته كسر القوالب التقليدية في الدراما العراقية، إلاأنذي قار ترحب بكمأوالجنة والنارلم يتمكن منتجاوز العديد من العقبات الفنية والسردية التي قيدت نجاحه. فجاء، ولو بصورة أكثر حرفية من مسلسلبيت الطينالريفي التجاري الشهير، إلا أن الشخصيات هي هي، بفارق أنالجنة والنارميلودراما، بينمابيت الطينمسلسل كوميدي. كنا نطمح أن نرى بنات وشباب ذي قاربشخصيات هي بعينها، ولكن كبشر لهم حياة يومية لا تتوقفعند العنف والمراسيم العشائرية وأحزان الطائفة والنواح علىطول وعرض المسلسل.

مع أن أغلب الممثلين والمخرج مصطفى الركابي (33 سنة) منهم ومن بيت الدراما هناك، إلا أننا رأينا المدينة والناسببعد واحد فقط، بعد فقير فنيًا وسرديًا، تعكّز على موسممحرم وعاطفة التشابيه للشخصيات المقدسة.

وللتذكير، فإن موضوعةالتشابيهالتي تُعرض سنويًا فيشهر محرم هي بنية مسرحية خاصة، فضاؤها مفتوحوعفوي، حيث يشارك فيها ممثلون غير محترفين، والجمهوريعرف مسبقًا حبكتها ونهايتها. ومع هذا يتفاعل معها كل مرةكما لو أنها المرة الأولى بدافع عقائدي وعاطفي. هذا النوعمن المسرح الديني التقليدي أثار إعجاب المخرج المسرحيبيتر بروك عندما شاهده في طهران في السبعينيات، واستلهم جزءًا من نظريته المسرحية منها.