16 أبريل، 2024 4:43 م
Search
Close this search box.

الجنة تنحر خلف القضبان

Facebook
Twitter
LinkedIn

بدوية من بادية الأنبار سبعينية بملامح عربية بتجاعيد حفرتها السنين وعمقتها الأحزان ووشم بدوي يطرز وجهها ويديها بلونه الفيروزي ولدت حرةً في بيت من الشعر في قلب الصحراء ، خيمة من وبر الأبل تضم عائلتها وتقيهم تقلب طقس البادية وخارج الخيمة اغناماً وإبلاً وكلاب حراسة ،تلك هي حياتها وحينما ازهرت تزوجت من ابن عمها لتستمر حياتها ولتنجب ابنها الوحيد عبد الله وتنحر الخراف احتفاءاً بمقدمه السعيد .
ارتحلت تلك العائلة الى الفلوجة ومنحت داراً ضمن خطة الدولة لتوطين البدو واستقرت ام عبدالله وزوجها في الفلوجه حتى كان للقدر مألاً فلقي اباعبد الله حتفه وترك ام عبد الله وحيدة تقارع قسوة الحياة بصبر وأناة .
كبر عبدالله وحينما انهى دراسته المتوسطة تم قبوله في اعدادية الزراعة في ابي غريب فقرروا الانتقال الى ابو غريب بعد ان اتموا بيع دارهم واشتروا داراً بسيطة مبنية من البلوك في قطعة ارض تقبع منعزلة في اطراف المدينة . كانت تلك الدار رغم انها لا تعدو غرفتان هي واحة صبر ومدرسة صمود فكانت البدوية تجمع الاصواف من البدو وتغزله لتبيعه خيوطاً في سوق المدينة وتقتات باثمانه وتساعد ولدها الوحيد في اتمام دراسته . مضت السنين وتخرج عبدالله واستدعي لخدمة العلم وبعد سنين احتل العراق وخرج عبد الله بعمرٍ تعدى منتصف العشرينات وبدء يبحث عن عملاً ولكنه أحبط في كل مجال حاول ان يجد فيه فرصة عمل فبعد ان كان يؤمل النفس بالعمل في مصنع الألبان في ابو غريب اصبح المصنع نفسه يبحث عن عمل !
طرأت فكرة في رأسه فقرر ان يعمل بستانياً في هندسة وادامة حدائق الدور فاشترى دراجة هوائيه ومعدات كماكنة قص الثيل ومسحاة ومقص زراعي وسكين قطع الاشجار وتوجه نحو مدينة العامرية في بغداد ليعمل بستانياً متجولاً يرتب وينظم الحدائق ويقلم الأشجار ويكرب النخيل ويلقحه وفي اخر النهار يؤمن دراجته في مقهى من مقاهي العامرية ويعود ادراجه الى دارهم في ابو غريب ليجد والدته بانتظاره بكل شغف .
عبد ابن البدوية عرفته حدائق العامرية وعرفه الناس بلكنته المميزه واصبح له زبائن واصحاب وكان البعض منهم يهديه بعضاً من الشتلات الفائضه عن الحاجه فيحملها الى بيته ويزرع بها في حديقته البسيطه وكانت امه البدوية سعيدة صابرة مطمئنة تربي بضع دجاجات وديك وتغزل الاصواف بعناء بالغ فقد تقدم بها العمر وضاع املها باحتضان حفيد ينسيها معاناة وآلام السنين فعبد تخطى الثلاثون والحال ميؤس منه حتىٰ اصيبت بورم في الدماغ فقدت به بصرها وهزل جسمها وخارت قواها مما اضطر عبد الى ان يقلل من عمله كي يرعاها فأصبح ينتهي من اعماله مبكراً ليعود لمراعاة والدته .
دار ام عبدالله لم يكن فيها تلفازاً ولا مذياعاً يكسر صمت الفضاء وكانت تتكأ على منسأةً جلبها لها عبد من سوق الفلوجه وهي عصاة من البردي معقوفة النهاية لتساعدها على المشي ببطأ لتجلس في مجلس اعده لها عبد حيث كان من اولى مهامه بعد الاستيقاظ لصلاة الفجر والصلاة برفقة والدته ان يطلق الدجاج من القفص ويملأ صحن الماء لهم ويملأ علبة معدنية من علب معجون الطماطم الفارغه بحبوب الحنطة ويضعها بجانب مجلس امه كي تستمتع بنثرها للدجاج الذي يجتمع حولها وكأنها تراه بقلبها النقي .
تدهورت حالة ام عبد الله وزادت معاناتها واصبح الصداع في رأسها يحطمها تحطيماً استصحب عبد والدته الى الطبيب وعمل التحليلات والاشعات اللازمة ذ اصبحت امه لا تتمكن من تحمل الصداع الا بمسكنات الالم . قرر عبد التوجه الى طبيب في الحارثية ليعرض عليه حالة والدته فأتفق مع اصدقاء له من الطلبة الذين يداومون في جامعة بغداد ان يصطحبوه معهم صباحاً في الباص الذي ينقلهم وبعد ان ينتهي من عرض التحاليل يعود الى عمله في العامرية وفعلاً وبعد صلاة الفجر كان صوت منبه الباص يناديه يسبقه صوت ترتيل محمد صديق المنشاوي الذي اعتادوا على تشغيله في جهاز التسجيل في الباص فجر كل يوم وخرج عبد متأبطاً ملف تحاليل والدته والتفت بنظرةً الى داره ووالدته وكأنه يعلم انها نظرة الوداع وان وحوشاً كانت تتربص بهم في سيطرة بغداد لتقتادهم الى جهة مجهولة ويقتل الجميع رمياً بالرصاص ويرمى عبد جثة شوهها رصاص الغدر في المزابل ثم يدفن مجهولاً فلا اوراق ثبوتية في جيبه بل حتى ملف التحليلات مزقوه .
ام عبد الله اضحت وحيده فلا مساعد الا الله وجارة لهم تزورهم بين حين وآخر وظلت تظن ان عبد الله في العمل ولابد ان يعود .
يتناثر غباراً احمراً سببته عجلات الدفع الرباعي ليغمر دار البدوية ويترجل منها الملثمون ليحطموا الباب فيجدون ام عبد الله في مجلسها المعتاد متكأة على حائط غرفتها الخارجي وتحتها بساطاً من نسيج الاقمشه وحولها دجاجاتها فيصرخوا بها اين ( عبد لله البدوية ) فتخبرهم بانها لم تراه منذ اسابيع لأنه يشتغل في الحدائق في بغداد ، فيقتادوها الى السجن وفق قرار ان لم تعثروا على الارهابي فاعتقلوا احد افراد عائلته حتى يسلم نفسه .
قال لها المحقق ان ولدها احد كبار قادة الارهاب ويسمى ابن البدوية وهو المسؤول عن قتل الابرياء وتفجير وتفخيخ الطرق والعجلات ولن نتركك حتى يسلم نفسه .
مرت الايام والشهور والبدوية قابعة في سجن الفرقة العسكرية وزاد مرضها وبلغ الصداع في رأسها مبلغاً حتى اصبح صراخاً من الداخل ولكنها البدوية التي تعض على المها وتكتم معاناتها ويستدعيها المحقق مرة اخرى ، هل كان عبد الله يذهب الى حوران ؟ فتجيبه بلكنتها البدوية كان يجلب لي الصوف من ابناء عمومته ! فيلطمها في وجهها يجلب الصوف ام المتفجرات ! ويعيدوها الى زنزانتها محمولةً على حمالة كونها لا تستطيع المشي .. تفارق البدوية الحياة داخل السجن وتنقل جثتها الى الطب العدلي وبعد اشهر يدفنها المحسنون في مقابر المجهولين ، وتبقى دارها ودجاجاتها شاهدة لظلم المسؤول الذي ظلمها فان كانت الجنة تحت اقدامها فهو من نحر الجنة خلف القضبان .
هذه القصة روتها احدى المعتقلات اللاتي اطلق سراحهن بعد الاعتصامات في العام ٢٠١٣ حيث اطلق سراح اكثر من الفي امرأة بريئة من سجون ومواقع اعتقال سرية عن طريق لجنة تنفيذ مطالب المعتصمين
وحسبنا الله ونعم الوكيل .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب