23 ديسمبر، 2024 11:06 ص

يفتتح القرآن الكريم جميع سوره ( عدا واحدة ) بالآية المباركة ” بسم الله الرحمن الرحيم ” وحتى سورة التوبة التي لا تفتح بسم الله الرحمن الرحيم ، تم تعويض تلك البسملة في سورة النمل . وبالتالي نفهم أن سبحانه وتعالى يبشر جميع عباده بالرحمة لأنه هو الرحمن الرحيم وليس الجبار المنتقم الذي يهدد مخلوقاته بالويل والثبور.
و القرآن الكريم مليء بآيات الرحمة و الغفران حتى يخيل لمن يقرأه إنه قد ضمن المغفرة و الرحمة و بالتالي الجنة لمجرد طلب ذلك من الله .فالله سبحانه وتعالى يطلب فقط الإيمان الصادق به و العمل الصالح : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ( العنكبوت 9 ) و الإيمان بالله عز وجل فطري و من الصعوبة بمكان عدم الاعتراف به . و ترى أكبر ملحد في عصرنا الحالي أنتوني فلو Antony Flew المؤلف لكتاب الإلحاد الشهير ( لايوجد إلهThere is No God ( اعترف بعد سنوات طويلة أنه كان مخطئا و أصدر كتابا آخرا بعنوان ( هناك إله There is God ) أما العمل الصالح فهو فطري أيضا فجميع مكارم الأخلاق هي أعمال صالحة . و يمكن الاستدلال بالتالي أن جميع مساوئ الأخلاق هي أعمال غير صالحة .
وربما يخيل للفرد أنه أخطأ كثيرا فيما مضى من حياته وبالتالي يعتقد أن رحمة الله لن تشمله بسبب ما قام به من أعمال سيئة . لكنه سبحانه و تعالى يطمئن عباده المسيئين بقوله : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( الزمر 53 )
وكل المطلوب من أولئك المسئين المخطئين ، وكلنا كذلك ، التوبة وعندها حتى الملائكة ستستغفر لهم : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( غافر 7 ) . وليس دعاء الملائكة ذلك للمخطئين بأن لا يعاقبهم الله و يغفر لهم ، بل يكافئهم و أزواجهم و ذرياتهم الصالحين : رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( غافر 8 ) و يدعون لهم بالفوز العظيم في جنان الخلد : وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ۚ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( غافر 9 ) و كل المطلوب من العبد الصالح الدعاء المخلص ، و ما أسهلها من دعوة : وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( غافر 60 )
و تتكرر تلك البشرى لنا نحن البشر المخطئين بشرط بسيط واحد فقط و هو في النهاية لمصلحتنا أصلا وهو الاعتراف بوحدانية الله و الاستقامة و ما أسهله من شرط : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون ( الأحقاف 13 ) . ويصف سبحانه و تعالى توحيد الله و الاستقامة بأنه عمل عظيم يستحق الخلود في الجنة ، ما أكرمك يا ربنا : أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الأحقاف 14 ) .
و لا يمكن تخيل من أساء و أخطأ لكرمه سبحانه و تعالى وينسى قول عز وجل في الآيات العظيمة ، انظر : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( الفرقان 68 ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( الفرقان 69 ) و الآن تأمل الرحمة الواسعة و الكرم العظيم فسبحانه لا يغفر تلك السيئات و إنما يكافئ عليها : إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( الفرقان 70 ) . فالذي يتوب و يندم على أعماه السيئة السابقة و يصيبه الحزن كلما تذكرها و يقول في نفسه يا ليتني لم أفعلها ستكون مكافأته من الله سبحانه و تعالى تبديل تلك السيئات إلى حسنات .
و لو أردنا الغوص في كل سور القرآن فسنرى مئات الأمثلة لما كتبناه في هذه العجالة فالمهم دائما و أبدا الإيمان المطلق برحمة الله الواسعة و عدم القنوط منها . و كما كان يدعو الإمام موسى الكاظم عليه السلام : اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك و هو التوحيد ، و لم أعصك في أبغض الأشياء إليك و هو الكفر ، فاغفر لي ما بينهما . فسبحانه و تعالى لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ( النساء 48 ) و لا يشرك بالله أو يلحد به إلا قليل الفهم و الإدراك أو من الذين لا يريدون الالتزام بالمعايير الأخلاقية و الخلق الحسن .