من العادات اليونانية الشعبية المتوارثة أن من يطرب لصوت أو لراقصة ينهض، وهو يترنح من شدة السكر، وبين يديه كوم من صحون جبسية غير حقيقية، فيبدأ بتكسيرها تحت أقدام المطرب أو الراقصة تكريما وعرفانا بالجميل.
وفي قناعتي أن المعارك التي يخوضها الجمهوريون، هذه الأيام، ضد اتفاق الديمقراطيين مع الولي الفقيه، ليست أكثر من حفلة تكسير صحون على الطريقة اليونانية.
والعرب والعجم المعارضون للاتفاق النووي الإيراني الغربي، ومنهم نتنياهو، الذين يعلقون آمالهم على (الجهوريين) لعرقلة الاتفاق، أو إفشاله، أو تأخير تفعيله، بأسوأ الاحتمالات، إنما هم عجزة لا حول لهم ولا قوة، أو سذج يتعلقون بحبال الهواء.
فكثيرون من حكامنا ومن حكمائنا، بسبب قلة الحيلة أو برود الهمة، يتعلقون بحبال الجمهوريين، منتشين بما يَسمعونه من زعمائهم من غناء جميل عن أمن (الحلفاء) و (الأصدقاء) في المنطقة، وعن رفضهم إعطاءَ إيران، بالاتفاق الأوبامي الأخير، مزيدا من الحرية في رعاية الإرهاب، ومزيدا من القدرة على تمويل التنظيمات والأحزاب والقوى والمليشيات التي أنشأتها وسلحتها وخاضت بها حروبها التوسعية العنصرية الفارسية في الإقليم، (ولا أقول الطائفية، لأنها تستخدم الطائفة حمارا حمالا للذنوب).
لكن هذه المقالة المختصرة تبشر هؤلاء المتفائلين العرب والعجم المتعلقين بأذيال الجمهوريين بأن أحلامهم هواء في شبك.
فمعارك الدائرة في الكونغرس فقط على القشور، ولا تمس المصالح القومية العليا التي يحققها الاتفاق، بأي شكل من الأشكال. فلا اعتراض للجمهوريين على مُحالفة إيران، حتى وهم يعلمون أنها لن تغير فكرها ولا نهجها، ولا على دورها التخريبي في المنطقة.
ولتوضيح ذلك تعالوا نعُدْ قليلا إلى وراء، إلى عام الغزو 2003، ونتذكر حيرة الكثيرين من العراقيين والعرب والعجم في تفسير اللغز الشائك المتمثل في إصرار بوش ورامسفيلد وبريمر ومعاونيهم ومستشاريهم على تسليم العراق لمجموعات سياسية عراقية يعلمون، علم اليقين، بأنها مرتبطة بإيران، بل إن بعضها إيراني بالولادة، وبعضها الآخر بالرضاعة، وهم الذين كانوا لا يكفون عن الشكوى المريرة من خطر إيران على أمن المنطقة واستقرارها، ومن رعايتها للإرهاب، واستمرارها في تمويل أحزاب وتجمعات ومليشيات مارقة مشاكسة، وتصديرها إلى دول عديدة لإثارة القلاقل، وزعزعة الأمن فيها، وخاصة في العراق ولبنان ودول الخليج وفلسطين، رغم كل قرارات الشرعية الدولية وتحذيراتها وإنذاراتها وعقوباتها.
ويتذكر رفاقنا في المعارضة العراقية السابقة أن أمريكا (الجمهورييين)، حتى من قبل غزو صدام للكويت بسنين، كانت تمد جسورا خفية تارة، ومعلنة تارة أخرى، مع تجمعات المعارضة العراقية الشيعية المُصنعة إيرانيا، وهي تعرف أن قادتها وأغلب أعضائها مقيمون في إيران، ومُمولون من مخابراتها.
وأمريكا (الجمهورييين) هي التي اخترعت فكرة المحاصصة الطائفية العنصرية من أيام المعارضة، وجعلتها الأساس الذي بنت عليه الدولة المتقاتلة مع أهلها، ومع جيرانها، ولن تعرف العافية من جديد.
بصراحة، إن أمريكا (الجمهوريين) لم تُخدع بأولئك القادة، ولا بارتباطاتهم وتوجهاتهم وأهدافهم، لا السرية ولا العلنية، بدءً بأحمد الجلبي ومؤتمره الوطني الموحد، ومرورا بباقر الحكيم وأخيه عبد العزيز ومجلسهما الإسلامي الأعلى، ثم ابراهيم الجعفري وحزب الدعوة، ومحمد بحر العلوم وتقي المدرسي وموفق الربيعي وحامد البياتي وباقر صولاغ وحسين الشهرستاني وهادي العامري وعلي الأديب وجلال الصغير وسامي العسكري وباقي الشلة التي فرضتها إدارة بوش على حكم الشعب العراقي ووراثة صدام حسين، بعد أن كانت قد فرضتها علينا في المعارضة السابقة، وأجازت لها مصادرة مؤتمرات المعارضة وصياغة قراراتها ودعوة من تحب لحضورها، بالتفاهم مع جلال الإيراني الأمريكي، ومسعود التركي الإسرائيلي، ومع بعض العرب السنة الهامشيين، أمثال الشريف علي بن الحسين وحسن النقيب وعدنان الباجه جي ونصير الجادرجي ومحسن عبد الحميد، ومحمود المشهداني وطارق الهاشمي، والذين استبدلتهم بعد ذلك بالأخوين أسامة وأثيل النجيفي وصالح المطلق والأخوين كربولي وسليم الجبوري ومشعان.
وحين دخلت قوات الاحتلال الأمريكي (الجمهوري) إلى العراق لم تتراجع لا وزارة الدفاع ولا الخارجية ولا السي آي أي ولا إدارة بريمر عن قرار اعتماد تلك الأحزاب وريثة شرعية ووحيدة لنظام صدام، بل منحتها الكلمة العليا في صياغة الدستور وقانون الانتخاب وتوزيع المناصب والمراكز والألقاب. وهي تعلم بما سوف يصيب المنطقة وأمنها واستقرارها عند اكتمال الهيمنة الإيرانية على العراق.
ثم تذرعت برغبة الفريق الإيراني وقيادة الكيان الكوردي فلبَّت، وعلى الفور، طلبهم إلغاءَ الجيش وأجهزة الأمن والشرطة، ووزارات الإعلام والتربية والتخطيط والصحة والخارجية، ونسفت، معهم، دولة العراق بكامل جسدها وعقلها وقلبها، بحجة إعادة بنائها على أسس ديمقراطية متحضرة. ولكن الذي تم هو توزيع الدولة عليهم، قطعا وأجزاءً، وإشعال نيران الاقتتال المذهبي في العراق ومد ألسنة نيرانه إلى دول الجوار.
وأمريكا (الجمهوريين) هي التي سلمت رئاسة كردستان لعائلتين إقطاعيتين تعلم جيدا أنهما لن تقيمم دولة كوردية تخدم جماهيرها، وعمقت بينهما الفرقة والعداء، ولن تقوم لهم دولة حتى لو أرادوا، من الآن وإلى يوم يبعثون.
وكان في إمكان القيادة المدنية والعسكرية الأمريكية (الجمهورية) تغيير قواعد اللعبة، على الفور، وجعل المواطنة هي الأساس، واستدعاء القوى الديمقراطية الوطنية العراقية غير الطائفية وغير العنصرية، وتمكينها من تشكيل حكومة تكنوقراط مؤقتة نزيهة وقوية تفرض حكم القانون وتحاسب الفاسدين، وتمنع انزلاق الوطن إلى الخراب الذي جاء فيما بعد على أيدي المعممين.
وحين رأت، ومن الأيام الأولى للغزو، خصوصا في فترة سلطة جو غارنر، قبل وصول بول بريمر، قادة الأحزاب الشيعية المُصنعة إيرانيا يستقبلون، علنا ودون مواربة، آلاف المسلحين القادمين من إيران، زاعمين أنهم أعضاء أحزابهم الذين كانوا مبعدين إلى إيران من قبل النظام السابق لم تفعل شيئا وأغمضت عيونها كلها وتركت لهم الساحة يلعبون بها كا يشاؤون.
وليس معقولا أن أمريكا (الجمهوريين) لم تكون تعرف ما يجري في قواعد ومقرات تلك الأحزاب ومناطق نفوذها.
كا لم تتدخل لمنع (وكيلها) أحمد الجلبي، مثلا، من السطو على مكاتب مخابرات النظام السابق، وسرقة ملفاتها وأقراصها المدمجة وأسرارها وأموالها، ونقلها، علنا، وعلى مرأى ومسمع جيوش الاحتلال، إلى مكاتبه في المنصور.
وليس صحيحا أن الأمريكان تخلوا عن الجلبي حين اكتشفوا أنه قام بتمرير معلومات سرية خطيرة لإيران، وهو الذي لم يتوقف عن جولاته المكوكية بين واشنطن وطهران، بعلمهم، وربما بأوامرهم أيضا.
ثم حين انتهت صلاحية مجلس الحكم سيء الصيت كانت إيران، برضا (الجمهوريين) وتبريكاتهم، قد تحولت إلى قوة فاعلة حقيقية في العراق، تُعز من تشاء وتُذل من تشاء، وتفرض أتباعها ومريديها وجواسيسها على الرئاسات والوزارات والسفارات ومجالس المحافظات والبلديات والمؤسسات العسكرية والأمنية والمالية، وحتى محطات بيع الوقود، علنا وعلى رؤوس الأشهاد.
السؤال الذي ينبغي أن نجيب عليه الآن، هو، هل كان (الجمهوريون) سُذجا إلى هذه الدرجة، وغير عارفين بدواخل الأمور العراقية، وجاهلين بحقيقة العلاقة العضوية الحقيقية بين الأحزاب الشيعية الحاكمة اليوم في العراق وبين (العدوة الأولى) لمصالحهم في المنطقة، حين قرروا تقديم العراق لها على طبق من ذهب وفضة؟ إن من يظن ذلك واهم ويحتاج إلى تنوير.
والخلاصة. إن من يعرف دواخل الأمور في واشنطن لا يستطيع أن يقاوم كثيرا فكرة المؤامرة. فالديمقراطيون والجمهوريون، معا، وبالتساوي، تسعدهم أدخنة الحرائق المشتعلة في كل مكان من هذه المنطقة المشؤومة، وتسعد خدامهم الإسرائيليين، دون ريب.
وزحلقة السعودية، ومعها دول الخليج، في اليمن، وجرجرة تركيا إلى مغاطس العراق وسوريا، وإعادة تشغيل وجعها الكوردي، وترويع مصر في سيناء، وتدوخيها بليبيا، وإغراق إيران في سوريا والعراق واليمن ولبنان وفلسطين والبحرين، أوراقٌ رابحة للديمقراطيين وللجمهوريين، معا. فكل استنزاف بشري ومالي وسياسي وأمني لشعوب الإقليم، وكل تشبيك حابل بنابل في المنطقة، تدويرٌ وإنعاشٌ للمصانع الأمريكية والأروربية، وراحة كاملة لشعب الله المختار. أما الباقي فكما يقول المثل اللبناني (فخّار يكِّسر بعضه).