لا يخفى عليكم أن علم النحو يدرس الجملة من حيث إفادتها التامة للمعنى ؛ مما يحسن السكوت عليها ، وقسمها العلماء إلى جملة اسمية ( مبتدأ وخبر ) وجملة فعلية ( فعل وفاعل إذا كان الفعل لازماً وفعل وفاعل ومفعول به إذا كان الفعل متعدياً ) ولما كان الشعر، فناًأداته اللغة ، أصبح من اللازم على الشاعر أن يتفاعل مع تراكيبه اللغوية ، والتفاعل هذا يمتزج بالخيال والعاطفة والإبداع ، بمعنى أن الجملة الشعرية التي تشكل البناء الشعري للقصيدة ، يقصدها الشاعرقصداً ، ولم يضعها بشكل عبثي ، وهنا تبرز مهارة الشاعر وحنكته في خلق هذه الجمل الشعرية .
تشكل الجملة الشعرية الأولى عتبة مهمة في القصيدة ، بل أزعم أنها الحجر الأساس والقدحة الأولى ، التي يؤسس عليها الشاعر قصيدته ، غرضها أو موضوعها … وقد كان اختيار الجملة الشعرية الأولى للشاعر باسم محمد الحربي موضوعاً للكتابة عنها؛ لأنها تشكل ظاهرة أسلوبية بارزة في مجموعته ( لو ينبغي للريح ) لأن معظم قصائده يتلوها تحت العنوان جملة شعرية أولى بلون غامق يؤسس الشاعر عليها قصيدته … ولنبدأ من الجملة الشعرية الكبرى وأعني بها العنوان ( لو ينبغي للريح ) التي تشكل أمنية غير مكتملة المعنى والتركيب بتوظيف أداة الشرط ( لو ) التي إحدى معانيها التمني .. على أن هذه الجملة تشكل انزياحاً بترك المتلقي يتأول جواب الشرط غير المذكور ، وجملة ينبغي للريح التي تعني يمكن للريح ، هي رغبة يائسة إذا ما قلنا ( ليت يمكن للريح ) يمكنها ماذا ؟ أو تتمنى منها ماذا؟ فثمة مسكوت عنه عند الشاعر ومعنى في قلبه لم يبح به … ولعله جعل هذا المعنى مطلقاً غير مقتصر على قلبه فقط ، بل على قلوب الجميع.
في قصيدة ( وقنديل ) يستهل الشاعر هذه القصيدة بجملة ( يربي الضوءَ في رازونة البيت ) فقد شكلت الجملة الفعلية حركة شعورية ذات دلالة تحيل إلى استمرار وديمومة هذا الضوء بتوظيف الفعل المضارع ( يربي ) الذي يعني التغذية والعناية والاهتمام ، ومكان هذا الضوء هو ( رازونة ) واحدة في البيت ؛ مما جعل هذا الضوء مقتصراً على مكان واحد يحتويه وهو ( الرازونة ) الذي يشكل ذكرها في جملة البداية ، دلالة تراثية في البيوت العراقية القديمة بيوت الأجداد … أما في قصيدة ( وردتان لرقيم واحد ) فقد جاءت جملة البداية مسهبة ؛ لأنها ذات محمولات ناصحة ( ستبقى كثيراً كما شئت ، عليك أن تعي ذلك جيداً ؛ كي لا تمنح الظلمة فرصة أخرى ) أقول مسهبة ؛ لأنني أزعم أن الشاعر هنا يتحول إلى معلم حكيم ناصح … فالنصح بالثبات والبقاء والوعي بهذا البقاء ، كفيل بتفويت الفرصة على الظلمة على الاجتياح .. ويقدم الشاعر في قصيدة ( ليلة عميقة ) الجملة الشعرية ذات بعد تفسيري ( الأغاني لا تحب النوم ، أقصد لا تحب الكلمات ، أعني لا تحب المسافة ) فقد جرد الأغاني بأسلوب النفي الوارد ثلاث مرات من ثلاثة أشياء النوم /الكلمات / المسافة … وقد أكد الشاعر في هذا التجريد باستعماله فعلين تفسيريين وهما ( أقصد / أعني ) … ويمكن أن نستنتج أن الجملة الشعرية أو جملة البداية عند الشاعر ، كلما اتجهت إلى التفسير والشرح طالت ، كما في قصيدة ( سيرة رجل أحمر ) البذور التي زرعها في ملامحنا ، هي الآن أشجار عالية ، تشبه المشانق كثيراً ) فالضمير هي قد أدى إلى تفسير ما قبله ؛ لما لهذا الضمير من توضيح إلى مصير هذه البذور المزروعة في الوجوه … ولاسيما أن كلمة أشجار عالية توحي بالمدة الزمنية الطويلة لهذه الزراعة … إن للشاعر قدرة على تطويع مشاعره ضمن الجملة الشعرية التي يستهل بها ولاسيما إذا اتجهت نحو أن تكون رسالة لصديق كما في قصيدة ( برتقال أخضر ) إلى صديقي علي فرحان مع الود ، لا وقت للأنهار يا صديقي كي تغسل عنا كل هذا التعب …. إن إسناد الرسالة هنا جاء إلى صديق مؤكد بالنداء الاعتراضي الذي كرر كلمة صديق ، كما أن هذه الرسالة من النوع الإخباري ، فهو يخبر صديقه علي فرحان وينفي له بلا النافية للجنس بعدم وجود وقت للأنهار لنا نحن المتعبون ؛ كي نغتسل بماء الراحة بمعنى أن الجملة الشعرية هنا تحيل إلى ديمومة التعب لبخل الأنهار بمائها … ثمة علاقة استرجاعية للماضي في جملة البداية الشعرية كما في قصيدة ( منديل لمجنون ليلى ) القصائد التي أحرقتها ، صار لها جناحان ، هي الآن تحلق فوق رأسي كالقيامة … فاسترجاع الماضي المحروق وتجنيحه عن طريق فعل الصيرورة وبثه طائراً بالاستعارة المكنية يجعل هذه الفعل فعل الاحتراق كبيراً مرعباً كالقيامة … وتشكل بعض الجمل الشعرية التي يستهل بها إحالة معتمدة على السياق ومقتضى الحال بموقف اتصالي يتجه نحو الحكمة المتعالية ففي قصيدة ( نبوءات متأخرة ) يقول : المسامير تختنق يا صديقي حين نمنحها كل هذا الخشب … إن الموقف هنا يؤثر في المتلقي ويجعله في حالة تصور واقعي لزج المسامير بطولها حد الاختناق عنق المسمار عند دقه بالخشب الذي يبتعله … فالاختناق هنا للمسامير مقرون بالتقاء عنق المسمار أو رأسه في سطح الخشب …. ومن الإحالات القبلية ونعني بها الرجوع إلى ما سبق أن حدث نجده في قصيدة ( إلى السيدة القديسة وضحة محمود تقاسيم على مقام النهاوند : صدقيني البيت الذي أخرجونا منه عام 2014 سنعود لنشتريه في 2020 هكذا نحن نحب العودة دائماً … فهو يبدأ جملته بــــ ( صدقيني ) للطمأنينة والثقة وبث الطاقة الإيجابية للعودة إلى البيت الذي يشكل عنصراً إشارياً وطنياً للعودة المضادة ؛ لكنها عودة معكوسة فالخروج من البيت كان بلا ثمن والعودة إليه كان بثمن لأن العودة دائماً هي الحلم !! … وختاماً فإن الجملة الشعرية بحسب تعريفها : هي الجملة التي تستمد عطاءها من التركيب النحوي والأسلوبي والبلاغي …. وقد آثرت أن أتحدث عن الجملة الشعرية الأولى عند الشاعر باسم محمد لأنها تشكل تأسيساً لقصائد مجموعته ….