نسمع يومياً الكثير من الإمتعاض والإحباط واللعن لصعود التيارات الإسلاموية إلى السلطة في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، وأعتقد جازماً أنه كان من حسن حظنا ومن حتميات سنن التأريخ صعود هؤلاء إلى السلطة عندنا، فمن قبل عقود كانت هذه التيارات والجماعات ملأت الدنيا ضجيجاً من الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت بلداننا، وكانت تمثل الأمل لطبقة واسعة من مجتمعاتنا، وكنا نحبهم ونحسن الظن بهم، ونتعاطف مع مظلومياتهم، ولم نصخ أسماعنا إلى مفكرينا المتميزين الذين كانوا يحذرون من هذه التيارات، والسبب أننا لم نر من هذه التيارات وبشكل واضح أي مبررات لنبذهم، فنرى المفكر الكبير عباس محمود العقاد يحذر من جماعة الإخوان منذ أكثر من خمسين عاماً واعتبرها جماعة تخدم المصالح الصهيونية، وفي العراق كان المرجع الديني الشهيد السيد محمد الصدر يحذر من الأحزاب عموماً ومن الإسلاموية خصوصاً، قال : ((إن “الحياة الحزبية” تجر المجتمع الى التناحر بين الأحزاب هؤلاء يقولون نحن وأولئك يقولون نحن، الأمر الذي بقي المجتمع ينوء تحت ثقله سنين طويلة وعشنا فيه تجارب مريرة، ومن الصحيح كما قالوا إن هذا الاتجاه يطمس -أو يكاد- الانانية الفردية إلا أنه يؤكد الأنانية الجماعية والحزبية))، ولكن عامة المجتمع لا ينظرون بمنظار ورؤية المفكرين، فعادة المجتمع كانت ولا زالت التأثر بالتجربة وليس الرؤية الثاقبة، كما أن مجتمعاتنا ودولنا لا تمتلك رؤية استراتيجية ولا مراكز دراسات متخصصة كما في الغرب، فنجد أن الغرب قبل الحرب الأولى كان قد أرسل العشرات من المبشرين الى الشرق، كما أرسل خبراء في عدة اختصاصات منها اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية ومخابراتية، وقامت بتجنيد الشخصيات المؤثرة في المجتمع بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومن هذه الشخصيات محمد بن عبد الوهاب ومرجعيات دينية ورؤساء عشائر كما حصل في العراق ومنظمات وأحزاب دينية كما حصل مع الإخوان في مصر وغيرها، ولكن الغالبية العظمى من أفراد وشخصيات المجتمع لم تنزلق في الحيلة البريطانية والفرنسية ولكنها كانت غير مستبقة للحدث ومشاريع الغرب في بلداننا، وعندما حصلت الحرب الأولى كان التعامل معها بسذاجة متناهية، فقد قاتلت البلدان العربية الى جانب العثمانيين وكانت النتيجة هزيمتهم وأن أداروا ظهورهم لنا، وانزلق الشريف الحسين بن علي زعيم الثورة العربية الكبرى (كما تسمى) في المستنقع البريطاني بعد أن وعدوه بملك العرب، فساهم في إسقاط الاحتلال العثماني وإدخال الاحتلال البريطاني حتى كنا نقول كما قال الشاعر (فليت ظلم أمية دام لنا وليت عدل بني العباس في النار)، ومن ثم لم يفِ البريطانيون بوعودهم له وأسلموا الحجاز لآل سعود والوهابية، وملكوا أبنائه كلاً من العراق والأردن. المهم أننا نستعيد اليوم وبشكل واضح دور الشريف الحسين بن علي ولكن بجلباب الإخوان المسلمين الذين سيكررون نفس الدور الذي قام به الشريف لإدخال الاستعمار الغربي الأمريكي الى بلداننا وبهيئة جديدة تماماً، ودورهم الأساس يكمن في دورين، الأول : إسقاط الإسلام المعتدل من نظر المجتمع وسيرفض بالتالي أي تعليم ديني، وهذا يعني بوضوح انسلاخنا من هويتنا الإسلامية فعادة عوام المجتمع عندما ترفض نظاماً سياسياً أو جماعة ما ترفض كل ما تدعو إليه هذه الجماعة، وسيترتب على ذلك رفض الإسلام العظيم واحتقاره من قبل الأمة الإسلامية، وشاهدنا ردود أفعال وقحة من قبل بعض العوام تتمثل بالتعري كما فعلت فتاتان إحداهما من تونس والأخرى من مصر، كما أن ردود فعل إلحادية أو لا دينية عنيفة ظهرت وقد وجدت أذاناً هنا وهناك، وأهمية هذا الدور تنعكس أيضاً في المجتمع الغربي الذي قد يؤثر في سياسات حكوماتها، ونعلم جيداً أن الغرب يرضخ أحياناً كثيرة لإرادة شعوبه ويخشى من أي دور إعلامي مؤثر، لذلك عندما يصدِّر الغرب رؤية المتطرفين الإسلامويين الى الغرب سوف يكون هناك دعم واضح من قبل الشعوب الغربية لحكوماته لسحق بلداننا، كما حصل في 11 سبتمبر 2001، الذي جعل الرأي العام الغربي يعتبر الإسلام والمسلمين الخطر الأكبر على البشرية، ولا ننسى أن الغرب مجتمع مادي ولا يقرأ هو الآخر وإنما يتأثر بالدرجة الرئيسية بالإعلام حسب إحصائيات غربية، ومن ثم سيعطي المشروعية لأي عمل أو استعمار غربي جديد لبلداننا.
والدور الثاني : إعادة تقسيم البلاد العربية والإسلامية على أساس الإنتماء الطائفي والديني، وإشعال حرب طائفية مقدسة تنتهي بإنهاك البلدان بشرياً واقتصادياً، مما يؤدي إلى القبول بإملاءات اقتصادية واجتماعية ودينية، كما حصل في الخليج حيث منعت آيات قرآنية من إدخالها ضمن المناهج التعليمية كما في ذكر اليهود أو التفكر، ومنع أيضاً خطباء تم اعتبارهم محرضين على العنف (وربما كان بعضهم كذلك) ولكن الإجراء جاء بإملاء وليس بقناعة تلك الدول. وتجري اتفاقيات اقتصادية وأمنية كما جرى في العراق الذي تم استئجار بحر نفطه الى شركات أمريكية وبريطانية وهولندية وغيرها إلى أمد لا يقل عن 25 عاماً، ونلاحظ أن العراق لم يستفد من نفطه شيئاً يذكر بعد عشر سنوات على إسقاط النظام، أي بميزانية لا تقل عن تريلون دولار خلال هذه المدة، ولا زالت البنى التحتية تحت معدل الصفر. كما تم تجديد الاتفاقيات الأمنية في دول الخليج عبر تمديد وجود القواعد العسكرية وشراء أسلحة متخلفة بعشرات المليارات من الدولارات فضلاً عن اتفاقيات اقتصادية وإملاءات سياسية تشمل أعلى الهرم كما رأينا في تنحية أمير قطر الإجبارية، وسمعنا مؤخراً عن إنشقاق أحد أفراد الأسرة الحاكمة في الحجاز وهو ما يشكل عصا تهديد لآل سعود أو يمثل ظهيراً خلفياً في حال تعرض المملكة لانتفاضة شعبية فسيكون هذا الأمير المنشق أحد قادة الانتفاضة الجديدة ونعود كما كنا!.
لذلك كنا بحاجة ماسة لصعود هذه التيارات المتأسلمة لكي يتم التخلص منهم ولكن بخسائر ومقاومة ضرورية، وأعطيك نموذجاً، ففي مصر بعد ثورة 25 يناير كان المجلس العسكري بقيادة المشير الطنطاوي بين نارين، نار الاستسلام لتهديدات الإخوان والسلفية بإحراق البلد في حال عدم إعلان فوز مرشح الإخوان محمد مرسي بالرئاسة أو يرفض التهديد بالتالي سيكون مسؤولاً عن تنفيذ التهديدات والتي هي ليست بالحجم الذي هددوا به، ونار الشارع المصري الذي ما فتئ يصرخ (يسقط يسقط حكم العسكر) ومن المؤكد أن المجلس العسكري كان في موقف الأضعف إذا ما أضفنا إليه التهديدات الأمريكية لهذا المجلس والتي لم تعرض كاملة حتى اليوم. وأنا أجزم أن الشارع المصري قبل عام لم يكن ليحسن الظن بالعسكر بعد أحداث وتظاهرات تم التعدي فيها على المتظاهرين وتعرية إحدى النساء، لذلك رأينا مرسي في موقف القوي عندما عزل الطنطاوي وعنان.
وبعد صعود الإخوان الى سدة الحكم بدأنا ندخل مرحلة جديدة لم تكن أمريكا تفكر في عواقبها، ففي الشارع لا زال الغليان الشعبي متواجداً، وارتكب مرسي أغبى خطوات قام بها حاكم عبر التاريخ، ولكننا نعلم أنه لم يكن مستقلاً في قراراته فهناك المرشد ومن وراءه الامبراطورية الاخوانية المتواجدة في العشرات من بلداننا، كما أن المستشارين الغربيين الذين يوجهون عبر رجال الكواليس الأقوياء مثل خيرت الشاطر كانت لهم اليد الطولى، وأكبر خطوة غبية قامت بها أمريكا أن أوصلت الإخوان الى السلطة بعد سقوط مبارك مباشرة، فالمفترض أن تكون نوبة الإخوان بعد جولتين رئاسيتين على الأقل لكي لا يتلقون صدمات إنهيار النظام وأن تمرر كافة الاتفاقيات ويكون وصولهم بشكل سلس الى السلطة دون مشاكل، كما تُلقى كافة تبعات المشاكل السياسية والاقتصادية على من سبقهم ممن تورط في المرحلة الانتقالية. ولكننا لا بد أن لا نعطي للغرب قمة الذكاء فهم ليسوا كذلك، فضلاً عن الأزمة المالية التي أنهكت الغرب والبحث عن حلول سريعة ومنها إيصال حلفاء جدد الى السلطة يمتثلون بالاسلام السياسي الاخواني.
ولكن الغرب لا زال يقاتل من أجل إبقاء فرس رهانه في دائرة القرار قدر الإمكان، بعد أن أجهز الشعب المصري والجيش على الإخوان في الوقت المناسب وهنا نحتسب الالتفاتة الذكية والصبر للجيش المصري، الذي كان ينتظر يوم 30 يونيو بفارغ الصبر.
بقي علينا أن نعرف أن السلفيين هم الظهير الاحتياطي للمشروع الأمريكي وليس أنهم سيتركونهم يتولون زمام السلطة ولكنهم سيكونون ورقة الضغط والترهيب، كما يحصل في مصر وتونس، ففي مصر لاحظنا أن السلفيين التكفيريين مارسوا أعمالهم الإرهابية في سيناء وفي داخل القاهرة وعدة محافظات وكما مرت به مصر في تسعينات القرن الماضي، فلو عدنا الى حادثة مقتل الجنود المصريين في رفح ومن بعدها اختطاف مجموعة من الجنود فكيف يمكن قراءة مثل هذه الأحداث بوجود الحليف الاستراتيجي في السلطة؟، لا نجد غير تفسير واحد وهو أن يكون الشعب المصري أمام خيارين إما الإرهاب والتكفير وإما حكم الإخوان، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الاخوان يوصلون رسالة مفادها أن الإرهاب سيكون مستقبل مصر في حال التعرض لسلطتهم. أما في تونس فمجريات الأحداث القريبة بعد مقتل المعارض محمد البراهمي الذي جاء بعد سقوط الاخوان في مصر ليتفادى الاخوان في تونس ثورة تمرد مشابهة، وتلاها مهاجمة أوكار القاعدة في جبل الشعانبي الحدودي مع الجزائر لكي تصل رسالتان الأولى الى الشعب التونسي ومفادها نفس الرسالة التي أرادها الأخوان في مصر : ترهيب الشعب والثانية أن العدو الأخطر هو التكفيريون فيتم نقل الأزمة من تسلط الإخوان الى عدو خارجي وداخلي في نفس الوقت، وهناك ما يمكن أن يكون عامل مساعد في تونس لا يتوفر في مصر وهو أن الجزائر التي تعرضت لأكبر موجة إرهاب في تاريخها المعاصر بعد تنحية جبهة الانقاذ في التسعينات الماضية ستدخل على الخط لمساعدة الإخوان في تونس بعد أن كانت على نقيض تام معهم للوقوف بوجه العدو المشترك، وهذه عادة متعارفة عند الكثير من الحكومات التي تصدر الأزمة عند وقوعها في مشاكل داخلية، ولكن هذا لن يحصل كما يرجو الإخوان في تونس كما فشلوا في مصر، لأن الشعب رافض جذرياً وبشكل غير قابل للتفاوض لسلطة التطرف ووضع البلاد في خدمة المشروع الدولي، ونعلم يقيناً أن التكفيريين في سوريا توافدوا إليها بمباركة أمريكية وروسية في نفس الوقت، فأمريكا جربتهم واستفادت منهم في تمرير مخططاتها، أما روسيا التي ساعدت في دفع الآلاف من التكفيريين الشيشانيين فتستفيد من ناحيتين هي الأخرى أولاً التخلص منهم إذ كانوا ولا زالوا يشكلون عنصر قلق واضطراب في الجوار الروسي، وكذلك لتؤكد للعالم أن الحرب في سوريا ستكون نتيجتها وصول التكفيريين الى السلطة وحصولهم على الأسلحة الكيماوية التي يمتلكها النظام السوري وهذا ما يشكل خطراً (ليس واقعياً) لإسرائيل والمنطقة ولكنه سيأخذ مداه في الرأي العام خاصة في الغرب الأوربي والأمريكي، ولم ننس بعدُ حادثة التفجير التي استهدفت الماراثون في بوسطن والتي كان بطلاها من الشيشان، فمما لا شك فيه أن المهم هو مصالح الأطراف وتوزيع الغنائم، وكلما كان الضغط أكبر كانت الغنيمة أوفر.
الخلاصة أن الجماعات الإسلاموية لو لم تصل الى السلطة لتبقى لها أمل عظيم في الوصول في المستقبل إليها، ولبقيت الفئة الأكبر من الشعب على حسن الظن واحترام هذه الجماعات، ولكنها سقطت والى الأبد بعد أن لهثت للصعود واتخذت قرارات كان يفترض أنها تتخذ في الاجتماعات السرية للجماعة وتناست أن الزمان غير الزمان والمكان غير المكان، وعدنا مرة أخرى نستعيد كلمات مفكرينا عن خطر هذه الجماعات، وقد يعتقد البعض أن في الإمكان أفضل مما كان وهذا ليس صحيحاً جزماً، لأن الشعوب لا تتعلم ولا تصدق إلا عندما تكتوي بنار التجربة، ولكن المهم أنها تجربة سيكون لها أثرها خاصة ما حصل في مصر وسينتشر إلى باقي البلدان الإسلامية، وسيكون السقوط النهائي لهذه الجماعات، ولكننا نحتاج في ذات الوقت الى الإسلام المعتدل أو الإسلام الفعلي الذي تمثله مرجعيات ومؤسسات نقية قاومت بشراسة الزحف المتطرف.
وسيأتي اليوم الذي ترتد فيه الأفعى إلى وكرها وتنقض على من يمسك بذيلها، ولن يأتي عام 2020 بإذن الله إلا وستكون حواضن الإرهاب في الحجاز والخليج هالكة ومندحرة. وكذلك الأنظمة التي تعتاش على الرصيد الديني من أي مذهب كانت، ولن تستطيع أن تقف بوجه سنة التاريخ، ما دامت هذه الأنظمة تظن أنها ظل الله في الأرض، فلا يوجد حكم في العالم اليوم له هذه الصفة.