22 ديسمبر، 2024 7:13 م

الجلومرات والمحظورات والدول العربية

الجلومرات والمحظورات والدول العربية

“الاختيار” و”الحقوق” مصطلحان إلى حد كبير مترادفان؛ فعل “الاختيار” لا يمكن حدوثه دون إعطاء الفرد “الحق” في فعله، ومن ناحية أخرى، لسوف تصير “الحقوق” عديمة القيمة إذا لم يتوافر لدى الإنسان القدرة على “اختيار” ممارسة “الحق” المناسب في الوقت المناسب، وإلا شاعت الفوضى وصارت “الحقوق” و”الاختيارات” وسيلة لإيذاء النفس قبل إيذاء الغير. ومن هنا، يجب التشديد أن الإرادة الحرة للفرد هي مصدر “الاختيارات” و”الحقوق”؛ لارتباطًها بمفاهيم المسؤولية الأخلاقية ، والثناء ، والذنب ، والخطيئة ، والأحكام الأخرى التي تنطبق على الأفعال التي يتم اختيارها بحرية.

وحسب ما يشدد عليه الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه Friedrich Nietzsche في كتابه “العلم المرح” Gay Science (1882) ، قد يتصور البعض أن الإرادة الحرة تمنح الفرد قدرة على اتخاذ خيارات مطلقة أو بعيدة عن الواقع، وهذا بالطبع خاطئ لأن أحداث الماضي تحدد نتائج الاختيارات، وبالتالي تحدد الحقوق. وإذا كانت الحتمية Determinism هي عكس الإرادة الحرة، لكن أيضاً، تنطوي الإرادة الحرة والحقوق على جوانب حتمية كثيرة. وهذا النزيف الجدلي يمكن إيجازه في أن كل من“الاختيار” و”الحقوق” و” الإرادة الحرة التي يدافع عنها الفلاسفة والليبراليين تنطوي على قدر من الحتمية حتى لا تحيد عن مسارها الصحيح. ولكن، إذا طغى الجانب الحتمى على الإرادة الحرة، يدخل الإنسان في دوامة المنع والمحظورات، والتي سوف تقوده في نهاية الأمر إلى فقدان القدرة على ممارسة إرادته الحرة. وبالتأكيد، لسوف يسلب منه استحقاقه لميزة “الاختيار” والمطالبة ب”الحقوق” .

وتلك المسألة الجدلية العويصة تشبه جدل “من خلق أولا البيضة م الفرخة؟” والطريف أن ذلك الجدل الأبدي قد تجلى من ساحات المناقشات الفلسفية إلى الواقعالسياسي أثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي. وفي إطار التحفز واستعراض قدرات كل منهما أمام، أخذت الأساطيل البحرية الأمريكية والسوفياتية تجول البحار والمحيطات. إلى أن وقع المحظور، واختفت سفينة أمريكية في بحر اليابان. وبالتأكيد، اتجهت أصابع الاتهام للأسطول السوفياتي، لكن بلا دليل. وعندئذٍ، صار الهدف الرئيسي للأسطول الأمريكي، رد الصاع صاعين. وبالفعل، وبعد شهرين فقط، اختفت غواصة سوفياتية K-129 في مارس 1968 في ظروف غامضة. ودون أدنى شك، كانت جميع أصابع الاتهام موجهة للأسطول الأمريكي الذي لم يعلن مسئوليته. وتكمن أهمية الغواصة في محتوياتها من “صندوق تشفير” Code Box، الذي يكشف نظم التشفير السوفياتية، رؤوس نووية. وبالرغم من أنالقوات السوفياتية نشرت فرق بحث في كل مكان عن الغواصة خشية وقوع محتوياتها في أيدي الأمريكيين. لكن، دون جدوى. وبعد رحيل فرق البحث السوفياتية، أعلن الأسطول الأمريكي عثوره على الغواصة على بعد 1500 ميل من جزر هاواي وعلى عمق هائل يبلغ ثلاثة أميال من سطح المحيط.

ودون شك، كانت الغواصة السوفياتية بمثابة كنز استراتيجي وسياسي للمخابرات الأمريكية، ولصعوبة انتشالها، تم الاتفاق على بناء سفينة بحرية ضخمة مزودة بمخلب ميكانيكي مهمته الإمساك بالغواصة وانتشالها من القاع. ولصعوبة تحقيق الهدف، كان لابد من القيام بالتعتيم على نوايا الاستخبارات الأمريكية من خلال إيجاد ستار مناسباً لتنفيذ المهمة دون إثارة شكوك السوفييت.

فاستعانت المخابرات الأمريكية برجل الأعمال والبليونير الأمريكي الفاحش الثراء “هوارد هيوز” صاحب شركة “جلوبال مارين” Global Marine، كستار لانتشال الغواصة، الذي ادعى أن صار لديه ميلاً للتعدين، وعازماًعلى استخراج المنجنيز من المحيط  الهادي. فلم يثر هذا الستار التمويهي شكوك الجانب السوفياتي. وتم بناء السفينة في ست سنوات متتالية (1968-1974). وفي يوليو 1974، بدأت السفينة الأمريكية في انتشال الغواصة . والمفاجأة أن الكاميرات التي سجلت العملية كانت تنقل الصوربعد حدوثها بربع ساعة؛ لأن الفني نسى أن يعيد تنشيط وتحديث الكاميرات Refresh. وحين تم سماع خبطة قوية، تبين أن المخلب لم يستطع حمل إلا قشرة خارجية من الغواصة، أما الغواصة نفسها فمستقرة في قاع المحيط.

ولأنه لا يمكن ارتكاب مثل هذا الخطأ الفادح من قبل المخابرات المركزية الأمريكية  في عملية شديدة الإحكام، وجد المواطن الأمريكي أن من حقه الاستفسارعن حقيقة الأمر، وفقأ لقانون “حرية المعلومات” Freedom of Information Act الذي صدق عليه الرئيس الأمريكي ليندون جونسون عام 1966 يلزم أي جهة حكومية مهما كانت أن تجيب عن استفسارات أي مواطن أمريكي عن سير أعمالهم. وفي إطار تلك الشفافية، صار محتماً على الاستخبارات المركزية الأمريكية  أن ترد على استفسارات المواطنين. ففكرت في وسيلة للتحايل على القانون، وإلا سوف توضع الولايات المتحدة في مأزق مع الاتحاد السوفياتي. وبما أن الكذب جريمة يعاقب عليها القانون،فابتكرت الاستخبارات المركزية الأمريكية رداً لجميع المستفسرين يقيها من المساءلة والعقاب، واسمته “رد جلومر”Response Glomar، وهذا تيمناَ باسم شركة “جوبال مارين” Global Marine المنفذة للعملية، وذلك باجتزاء المقطع الأول من كل كلمة لتكوين كلمة جلومر Glomar. وهذا الرد الفريد كان كالتالي: “نحن لا نؤكد أو ننفي وجود المعلومات قيد الطلب. وفي حالة وجود تلك المعلومات، على سبيل الافتراض، فإنها سرية ولا يمكن الإفصاح عنها”.

ولاستياء المواطن الأمريكي من هذا الرد المبهم، تم رفع قضايا عدة على جهاز المخابرات، الذي كان دفاعه أن تلك المعلومات سرية، وإفشائها يهدد الأمن القومي الأمريكي. وبالفعل، تم رفض الدعوة المرفوعة على جهاز الاستخبارات. وبالمثل، اعتبرت الجهات الحكومية الأخرى “رد جلومر” مخرجاً رائعاً للتهرب من الرد على استفسارات المواطنينالتي تلزمها بالافصاح عن معلومة قد تدينها في المستقبل،مما جعل “قانون حرية المعلومات” لاغياً دون أن يتم إلغاءه.

ولو كان في رد “جلومر” تعتيماً، لكنه لا ينتهك مبدأ “الاختيار” و”الحقوق” المنبثق من ممارسة الإرادة الحرةلأي من الأطراف المعنية. وبالرغم من أن “الجلومرات” تدفع للبشر للشعور بالحنق، لكن تأثيرها لا يساوي وضع التساؤل نفسه تحت بند المحظور وأن مجرد التفكير في المساءلة يضع الفرد تحت طائلة القانون. فالأجهزة السياديةفي أي مكان في العالم تميل للقمعية ورفض مساءلتها، ولكن مع فارق فعل ذلك بطريقة لا تعبث بالإرادة الحرةبالبشر وتقتل فيهم روح الشجاعة والإقدام والتفكير الحرعند “الاختيار” أو المطالبة “بحقوقهم”. وبالنظر لعالمنا العربي، يقفز للأذهان التساؤل ما إذا كان يمارس على شعوبنا “جلومرات” أم أنها محظورة من التفوه باستفساراتها؟ الشفافية كلمة مطاطة لجدل عميق، سبيله التحايل وليس الصراحة. لكن، على الأقل توجد شفافيةحتى عند التحايل.