قبل ان تدرك الحرب بقذائفها سوق الهرج , كان في كل صباح يجلس شيخ في السبعين من العمر في أقصى اليسار من التخت الأمامي الذي يتصدر واجهة مقهى ” حسين ” , التي تقع تحت بناء يهودي قديم , يضع كوفية بيضاء ناصعة فوق رأسه , مثبتة بعقال حجازي قديم ينسجم كثيرآ في صناعته مع ” البشت ” المنسوج من شعر الماعز الأبيض والمطعّم بزخرفة خيوط البريسم الذهبية ,الذي يضعه فوق كتفيه .
ذات صباح وأنا في حانوت والدي أراقب مشهد إنفتاح قطع التخوت أمام المقهى , بدا على الشيخ شيئآ من الغرور وهو جالس هذه المرة , إذ كان يدير وجهه نحو اليسار مرة ونحو اليمين مرة أخرى . كأنه يتحاشى أنظار المارة لكي لا يلقوا عليه تحية الصباح المعتادة , أو أنه يتوقع قدوم الفتى “علاوي ” ليقدم له الماء. كان الصمت يحيط بالمقهى عند الساعة السادسة إلا من أصوات أصطدام حبات مسبحته ” السندلوس ” المرصعة بالخيوط الفضية الملتفة حول كل حبة , والتي ينقلها بهدوء وأطمئنان من يده اليمنى الى الأخرى بحركات يديه المتمرستين اللتان تنتقلان في كل مرة لتطال ” البشت ” ليعيد تثبيته فوق كتفيه كلما ينزلق عنهما ليضيّق الفجوة بين برد الصباح وقلبه .
بعد مرور عشرة دقائق , جلس في المكان الشاغر الى يمين التخت , رجل ضخم الجثة ذو عينين شرهتين ووجه ذو ملامح أفتراسية . كان يرتدي ثوبآ عربيآ بلون أعواد الدارسين الفاتح , واضعآ فوق رأسه يشماغآ محليا تتدلى ذوائبه من فوق كتفيه .
جلس وهو يسعل سعالآ شديدآ دون أن يلقي التحية على جليس الناحية الشمالية . رمقه الحاج بنظرات وهو يضع كفه اليسرى كمظلة فوق عينيه كأنه ينظر في الظلام , ثم نفخ نفختين في الهواء عبّرتا عن رغبة في فعل حماقة إزاءه , وصرخ فجأة :
أنت .. ياولد .. أين الشاي ؟! ألا ترى إحتقان السماء من ناحية اليمين وتدافع السحب الداكنة .. أقسم أن المدينة ستغرق إما بإعصار أو مصيبة !
قبل أن يأتي الولد بالشاي , التفت جليس اليمين وهو يرتب كوفيته وصاح :
وأنت .. أيها الولد , أعلم أنني بالأمس أغلقت أبواب البيت بنوافذه , وتركت الجيران يبتلعون أسئلتهم وأنا أهمّ بالذهاب الى سوق القصابين وبيدي ساطور كالذي يملكه سعيد القصاب , فوجدت عشرين كلبآ من حليقي الشوارب وقد أحتلوا مساحات كبيرة من القشلة وطريقها الوحيد , فحملت عليها بالساطور كما تحمل يدك هذه قدح الشاي , فقتلت تسعة عشر كلبآ بسرعة مذهلة مازلت مستغربآ من ذلك حتى الآن , وكانت أجسادها المترهلة والبليدة تثير سخريتي بدلآ من رأفتي , أما كبيرهم فقد ولى هاربآ نحو المقاهي المقفلة حول السوق.
بدا الفتى ” علاوي ” مستريبآ وهو ينظر باحثآ عن أبيه الذي توارى داخل المقهى , ثم ناول قدح الشاي الى جليس الناحية الشمالية الذي أنشغل بالتحديق الى جليس اليمين الذي أرتسمت على محياه رغبة في أخذ قسط من الراحة فبادره قائلآ :
ياعم “جاسم” , يبدو أنك حلمت حلمآ , لأن الكلاب لا تحلق شواربها وأنت لا تقدر على قتل تسعة عشر كلبآ دفعة واحدة , فهذا بالطبع حلم وإذا أردت سأفسره لك .
جلس الفتى بين الجليسين دون أن يرحبا به , وأطرق برأسه ودارت به فكرة أنه تمكن من أن يجلس بين رجال كبار لأول مرة , بينما لم يقدر من في عمره على ذلك , لذلك سيقول الكثير إن تمكن من جذب أنتباههم نحو عالم مابعد 1910 الذي ولدا فيه , إذ يعتبرونه عامآ تفتحت فيه أبواب الصراعات ومعاناة البشرية.
تنهد الفتى وقال :
أما هذه الكلاب الكسلى والبليدة , فهي بقايا فيالق وأفواج القوات العثمانية وقد أفترشت الطرقات بعد أن كانت تفترش مكاتب المتصرفية كالحصران والسجاجيد, ولأنها لم تكن سوى سقط متاع , فقد تجاهلتها العامة من الناس بعزلتها وتباعدها عنهم , وهذا هو المهم ولأن ذلك أمر حتمي كما يراه المعلم , فقد فقدت جدوى نباحها فقتلتها بسهولة في حلمك . توقف الفتى وهو يحدق الى الحاج حسن ثم أضاف :
أما كبيرهم الذي هرب نحو المقاهي المقفلة , فله تفسير آخر أقوله لك في ما بعد .
نهض “الحاج حسن” وجلس ثانية وكأنه يرغب في عرض وجهة نظره حول الموضوع الذي جره اليهم فتى المقهى , لكنه آثر السكوت , ربما لم يكن مهيأ لمثل هذه الحكاية التهكمية , فنفخ نفخة بالهواء وعاد يعدّل البشت فوق كتفيه ليرد على الفتى :
ومن علمك أن تساوي العثمانيين بالكلاب ؟!
أنه معلم التأريخ . أجاب الفتى.
وهل تراني كلبآ أمامك .. أيها الكافر الصغير , فأنا عثماني ؟ صرخ بوجهه الحاج .
أذهب للمعلم وقل له ذلك .أجابه الفتى بأمتعاض .
وما قولك في ما قلته أنا .. أيها الحكيم الصغير ؟!
دنا الفتى منه قليلآ ورد بعصبية قائلآ :
أعلم أن ماقلته ربما بسبب شيء غريب لا تعرفه أنت ولا أنا ..
ثم نظر الفتى الى الأفق وركّز بشكل مجرد وقال :
سترى جوابا لما قلت ..
رفع الحاج حسن قدح الشاي الفارغ ليعطيه الى الفتى الذي عاد يقول :
بل عرفت . أجاب علاوي وهو يحدق الى السماء قائلآ :
إنها ترسم أشكالآ لمركبات بشرية خاملة كما تبدو للناظر , لكنها لا تأتي بالبلور , بل تفترض لنا شيئآ لا نعرفه , ربما لأنك نظرت الى السماء بنظرة البارحة..
نظر العم جاسم اليهما وغمغم بكلمات غامضة , ربما كان يميل الى أستهجان هذه الفكرة أو ربما غمغم بحيرة لما يخفيه حديث الفتى وجليس الناحية الشمالية . وفجأة صاح :
خذ فتاك من هنا يا أبا علي وإلا سيأكلنا , فأنا قلت أنه بسبعة مؤلفين كبار!
شعر أبو علي أن الرجل قد أستولى عليه الضجر , وتقدم نحوه والأبتسامة تلوح على وجهه مع أستطالات خيوط الشمس وهي تقتحم جوف المقهى ليخاطب الرجلين :
ساعداني عليه , فهو مثل بندقية ” الموزر ” إذا تكلم , ومثل الطلّسم إذا سكت !
لم يكن ذلك الموقف إزاء الفتى يسرّ أحدآ , إذ لم يعبروا عنه بوصف دقيق له , وكان تجاهلهم له يدعو الى الإزدراء بسبب فتوته المبكرة وفضوله الذي فتح الأبواب المغلقة . كانت تلك الجلسة قبل عامين من وفاة الحاج حسن . وكان والدي يمثل مشهدآ من مشاهد ذلك السوق , إذ كان حانوته بالقرب من محل الموبليات العائد ل ” الحاج سوادي ” المقابل لمقهى حسين , الذي كانت أبوته آنئذ أجمل نموذج للأبوة في تبنيه لأبنائه . في هذا السوق الذي يقع وسط محلة المقام , حيث تحيط به أسواق التوابل والكرزات والعباءات بنوعيها الرجالي والنسائي من ثلاث نواح , ونهر العشار من الناحية الأخرى , لم يكن أي أحد يجيش بالعداء او التجاوز على الآخر لمأربة رصّ العقال في ديوان فك النزاعات والجلوس للمطالبة بالديّة , بل كانت الناس تنظر الى ذلك كما ينظر المتسول بذلّ الى عيون المحسنين.
أتذكر ذلك عندما كنت تلميذآ في مدرسة ” الدبة ” كما كان يسميها والدي . فلم يبد أحد ببياناته للجلساء الذين وفدوا إذ ذاك , بل كانوا ينظرون الى المشهد الصباحي بعيون الحكام .
حاول علاوي النهوض مع والده , إلا أنه أستدرك ليقول له هامسآ :
دعني الآن يا أبي , سأصل الى جدار الجمود الذي حال بينهما فأحطمه . ثم عاد يقول :
لكي ينظروا الى ما بعد السماء الملبدة .
لكن والده أخذه من يده ومضى مقهقها يقول :
يابني الزمن الذي تريده لم يستهل بعد , والذي لا تعرفه عن الرجلين هو الشيء الكثير , أقلّه إنهما كالديكة لا يفصل بينهما إلا الأشتباك , لأن إتجاه طريقتيهما مختلفة ,هيا بنا ..
غمز الحاج حسن بعينه لأبوعلي وهو يمسك بيد ولده كأنه يريد أن يبسط نفوذه على التخت وإكمال المشهد , لأن موقف أبو علي لم يسر مباهاته برجولته فقال :
دعه يارجل , فأنا أريده أن يقول لي ماذا يعني في ما قال : ” أنها تفترض لنا شيئآ لا نعرفه “..
تخلى الأب عن يد ولده كأنه أدرك أن في تدخله الطائش في شؤون الرجلين وأهوائهما سيكشف شيئآ خفيآ , فأبتسم لتركه المكان بالإكراه أو بالأحرى مكان الصراع , وصعد نحو الموقد يهتم بأقداح الشاي .
جلس علي ثانية بين الجليسين وهو يدرك أنه واقع تحت طلب إيضاح عما قاله للعم حسن . التفت نحو يساره بعد هذا التوقف من الزمن , ورغب أن يبالغ في مغامرته مع الرجلين فطفق يقول :
يا عم حسن , أن في الكون ظواهر طبيعية ولكل ظاهرة قرار , وأحيانآ لا نعرف ماهو قرار شدة الرياح أو المطر الشديد .. فهل تعرف لم يقرع جرس المدرسة ؟
نعم .. أيها المنبئ الجوى , إنه من أجل دخول التلاميذ في الصفوف . أجاب العم حسن ضاحكآ .
أحسنت يا عم , فهذا هو قرار الجرس .. والآن ياعم , فالسماء ملبدة بالغيوم ومتخمة بالماء لكنها لا تأتي بقرار .. يا حاج إن الغابة الكثيفة الأشجار لا تأكل بعضها وكذلك الأنهار لا تشرب بعضها , بل جميعها طيّعة لبعضها .
توقف أيها الولد , إنك تبعث فيَّ الحيرة ولم تصل الى الإجابة. قاطعه العم حسن ممتعضآ وهو يختلس النظر الى جليس اليمين قائلآ :
تبا للسوق الذي صيّرنا فيه نصغي الى سعال الأفيال وضراط معلم التاريخ ونذعن الى حكم الفتيان .
التفت علاوي الى يمينه غير مبال لما قاله الحاج متسائلآ :
ترى ماهو قرار الكلب الهارب نحو المقاهي المقفلة يا عم جاسم ؟ أتراه لائذآ بها لحد الآن , أم يتحين عليك فرصة ما ؟
لم يرد العم جاسم عليه . فبادره علاوي قائلآ :
ولكن على أية حال , فهناك ظواهر لا قرار لها , لذلك فهي تقذف بمفسريها الى مصير محتوم لا نعرفه .
دهش الحاج حسن وبدأ يتململ في مكانه من دون أن يتدارك إنزلاق بشته , حتى صاح به الحاج سوادي من دكانه الكبير :
لقد كسر هذا الفتى قرنيكما وأرعبكما , فباعكما ماعنده وتمكن بحركاته الصغيرة أن يقلب الطاولة عليكما ومحو زاير جاسم جاسم فتوارى خلف ساطوره وبدلآ من السخرية منه بألاعيبكما اليومية , سخر منكما بحكمتة الفطرية .
أنزلت مزلاج الحانوت , فقد حانت ساعة الذهاب الى المدرسة , بعد أشتداد شمس الظهيرة , فقد أنتهى الفصل المسرحي التهكمي واليومي بين الحاج حسن وزاير جاسم أمام علاوي , ولكنني لم أنتبه الى أن الحاج سوادي بكياسته المعروفة كان يسترق السمع عن كثب لحوارات ذلك الفصل , فمرقت بجوار المقهى فألتقفت أذناي قهقهات الرجلين وهي تضج بالمقهى وآخر ما قاله الحاج سوادي :
ها أنتما تجران جثتيكما فوق التراب بدلا من تغطيتهما بقماش أبيض .