22 ديسمبر، 2024 11:45 م

(الجـزية) .. في الفَهم المُعاصر للقرآن

(الجـزية) .. في الفَهم المُعاصر للقرآن

(المقدمة)

من الواضح جداً إن تفسيرات القرآن التي جاء بها الأقدمون – وحتى المعاصرون – كانت وما زالت متأثرة ببيئتها (السياسية والاجتماعية والعقدية والفقهية واللغوية) ، ومتساوقة مع ثقافة المجتمع وأعرافه ، فكان لهذه التأثيرات على فهم وتفسير القرآن أن جاء الكثير من كتب التفسير بفهوم (محدودة) وربما (مقننة) لتطابق الوعي المتأثر بــ (الزمكانية) ، وربما كان للبيئة السياسية الأثر الأكبر في توجيه وعي وفهم (المفسرين) ، ما نتج عن بعضها – كأنموذج – اعتبار أنّ كل من لم يؤمن بالرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) ، وكل من لم يتعبد بشريعته فهو كافر يستحق (الإهانة والقمع والتغييب والمصادرة) ، وربما يستحق (القتل) وسبي ذراريه ، واغتنام أمواله ، وهذا ما بنى عليه أباطرة (تسييس الدين) ووظفوه أيّما توظيف لمصلحتهم .

فالراسخ في أذهان وضمائر الكثير من العامة إن (أهل الكتاب) هم مجرد كائنات يطلق عليها تسمية (أهل الذمة) ، وبقائهم يمثل (عبئاً) على الأمة ، ووجودهم (داخل) المجتمع (المحمدي) هو وجود استضافة خالية من حق المواطنة ، وعليهم أن يتحملوا الاهانة والامتهان ، والقتل (عند وجود سانحة) ، وهو محصلة طبيعية للموروث الروائي والفقهي والتفسيري المكتنز في أمهات الكتب ، والذي أنتج لنا (الجزية) بمعناها الراسخ في الأذهان ، وأنتج لنا (داعش) بمعناه العملي .

أما من كان من أهل الذمة (خارج) الأراضي التي يحكمها أتباع الشريعة المحمدية فهم محض (أعداء لله ورسوله) ، وهم بالنتيجة (أعداء لأتباع الشريعة المحمدية) ، وهم خطر دائم ، يمكن (غزوهم) متى ما استطاع أتباع الشريعة المحمدية لذلك سبيلا ، معتمدين على كثير من آراء الفقهاء ، ووعاظ السلاطين ، والمفسرين (القدامى والمعاصرين) .

ومن المهم الاشارة في البدء إلى مسألة قد يستهجنها البعض ، وقد يعتبرها البعض الآخر (ردّاً للسنّة النبوية الشريفة) دون أن يبذل هذا البعض قليلاً من الروية والوعي والتثبت ، وهذه الإشارة تميل إلى :- إن كل الروايات والأحاديث وتفاصيل السيرة النبوية الموروثة فهي مردودة ومضروب بها عرض الجدار إذا خالفت (النص القرآني) ، وإن كل ما فعله الخلفاء والأمراء لتمويل غزواتهم أو تثبيت أركان عروشهم وسلطانهم فهو لا يعتبر (سنّة) ، وهو ليس مبرراً لوضع أحكام مخالفة (لكتاب الله) .

وهذا ليس معناه (رفض) السنة النبوية الشريفة (برمتها) مساوقة لما ذهب إليه البعض من (القرآنيين) في رد السنة النبوية (جملة وتفصيلاً) والاعتماد على كتاب الله حصراً ، ولكنه منهج التدقيق المعاصر في (المتن) ، ورفضٌ ما كان فيه مخالفاً للقرآن ، أو منافياً للفطرة والعقل السليمين ، بصرف النظر عن قوة السند وصحته ، وخصوصاً تلك الموروثات الروائية التي تنتهك حرية وحرمة الانسان الذي قال عنه الله في الآية (70) من سورة الإسراء من كتابه العزيز :- (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) .

وصحيح إن (القرآن) محفوظ ، وهو الموجود الآن بين أيدينا (ما بين الدفتين) ، وصحيح أنه لم يقع فيه (التحريف) بالنقص والزيادة ، ولكن رغم ذلك علينا الاعتراف بأن القرآن لم يسلم من يد التحريف من خلال (التفسير) أو (التأويل) الخاطئ والمخطئ الذي قام على أسس (مزاجية) أو (سياسية) أو قصور في الفهم كما سلف ، ومن هنا تتأتى المشكلة والخطورة الأكبر التي نشبت من خلال محاولة البعض ليَّ عنق الآيات بما يطابق مزاجه أو مزاج السلاطين ومصالحهم السياسية .

لقد قام العلماء والمفكرون (القدامى والمعاصرون) بتناول موضوع (الجزية) ، وطبل له (فقهاء السلطة) وزمروا ، ووردت فيه آراء مختلفة ، ونقود متعددة ، وما زال البحث في هذه المسألة مستمراً حتى يومنا هذا ، وإنما يأتي هذا البحث (المقتضب) متكئاً على فهوم الأقدمين في موضع القبول أو الرفض ، ومنطلقاً من فهم جديد يوافق أو يخالف فهم المعاصرين .

لقد اعتمد الفقهاء والأمراء والسلاطين على آية (الجزية) التي وردت في الآية (29) من سورة التوبة من كتاب الله سبحانه وتعالى ، واعتبروها مسوغاً ومرجعاً لأحقية السلطة (السياسية – الدينية) لاستحصال المال من (أهل الذمة) ، وقد قدم لهذه (الآية) جمهور من (الأخباريين) تبريرات (روائية) لتسويق هذه الجزئية .

وفي محاولة غير متقنة من بعض المتشبثين – بغير وعي – بمقولة (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة) ليخرجوا من (حرج) المعاصرة وحق المواطنة ، فقد جنح البعض لتبرير (الجزية) باعتبارها شبيهة ببعض أنواع (الضريبة) التي تتعاطاها الدول الغربية من مواطنيها في وقتنا الراهن ، بل حاول البعض الآخر أن يخرج من إحراجه ، بأن اعتبرها وسيلة (تعويضية) من وسائل توفير الحماية لــ (أهل الذمة) من قبل المسلمين ، في حين ذهب أهل الانغلاق إلى اعتبارها (فريضة) يجب أن يؤديها من لا يعجبه الدخول في الشريعة المحمدية ، (عقوبة لهم ، وتنكيلاً بهم) ، دون محاولة (جريئة) لإعادة قراءة (آية الجزية) قراءة معاصرة ، ومتجردة عن النمطية والعنديّـة والقبلية ، إلاّ بعض الأصوات التي لم تجد لها صدىَ في المؤسسات (الدينية – الدنيوية) .

والحقيقة إن هذه التبريرات لا داعي لها أمام المعنى التفسيري المغفول عنه في (آية) الجزية ، مع ثبوت القول بأن هذه الآية قد وظفت توظيفاً سياسياً من أجل استحصال الأموال من (عباد الله) لتقويم دعائم السلطة والملك ، والاستعانة بها على ما يسمى بــ (الفتوحات الاسلامية) المنافية – تماماً – للنصوص القرآنية ، والتي هي أقرب إلى (الاستعمار الاستيطاني) منها (للفتوحات) .

وقبل البدء بتفكيك آية الجزية المباركة والوصول إلى مدلولاتها ، ينبغي استحضار أو استباق ما قد يثيره بعض (الخاملين) الذين سيستنكرون الخوض في كتاب الله ، ويعتبرون أن (فهم وتفسير) القرآن ليس متاحاً (لكل من هب ودب) ، وإنما هو (منحصر) بطبقة من المفسرين الذين أختارهم الله ليكونوا (الصفوة) الذين يمتلكون حق الفهم ، ضاربين بذلك عرض الجدار حقيقة أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل القرآن (للناس كافة) ، ومتغافلين عن أن ما يدّعونه من أن القرآن (صعب مستصعب) هو خلاف قول الله سبحانه وتعالى في الآية 22 من سورة القمر ، حيث يقول سبحانه :- (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) ، فالواحد الذي أنزل القرآن يقول عن قرآنه (يَسَّرْنَا) ، ويأتي أباطرة الدين ليقفوا بشكل (مستضد الضد) ، وليقولوا بأن القرآن (صعب ومبهم) .

ولا شك أن القرآن أصبح صعباً – على الأقل في الوقت الراهن – بسبب ابتعاد العرب عن لغتهم ، واستبدالها بلغة الاختزال والاختصار ، وسعة دخول المفردات والمصطلحات الأجنبية ، وطغيان اللهجات الشعبية ، مضافاً إليها (ضحالة) مستوى تعليم اللغة العربية في مدارسنا العربية ، ما أدى إلى نفور الطلبة من هذه المادة التي ابتلوا بها بعد أن أصبحت (جامدة) بفعل مجموعة من (الأساتذة الفاشلين) الذين أفقدوها جمالها ونكهتها .

ولكن هذا كله ليس مدعاة لمنح (صك التفسير) لفئة معينة بحجة صعوبة مفردات القرآن ، حيث أن هناك قواميس وتراجم للمفردات من جهة ، وهناك المهتمون باللغة وفلسفتها ، وهناك (المتدبرون للقرآن) خارج المؤسسة الدينية ، وهناك آيات واضحة المعنى والدلالة ولا تحتاج الاعتماد على زيد أو عمر لتفسيرها .

نعم يحتاج المتدبر للقرآن أن يلجأ فيما لا يعرفه إلى قواميس اللغة ، ومتابعة للأحداث التأريخية ، و متابعة أهل المعرفة الذين سبقوه في الدراسة والتدبر ، أو العودة إلى (أهل الذكر) في استشفاف بعض المعاني ، وهذا – كله – ليس معناه التسليم بما ورد عنهم ، بل يجب أن يكون الرجوع إليهم هو خطوة نحو جمع النصوص وتدبرها ، والبحث فيها ، ومناقشتها ، والغوص في (مصداقية) الروايات المتضمنة تفسيراً للآيات ، وليس الركون والدعة لكل ما ورد عن السابقين والمعاصرين ، لأن الخطاب القرآني يحث أو (يفرض) على أتباع الشريعة المحمدية (تدبر القرآن) وليس – فقط – (حفظه) أو قراءته بشكل ببغاوي دون وعي وفهم .

ولأن القرآن هو (الخاتم) لما سبق من الكتب السماوية ، ولأنه مصدر (التشريع) المستمر حتى يوم القيامة ، فقد أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون مساوقاً ومواكباً ومناسباً لروح كل عصر ومكان ، ولذا ، بات لزاماً علينا أن نفهم أن القرآن لم ولا ولن (تنتهي عجائبه أو تنقضي غرائبه) ، وأن فهمه وتفسيره والاستدلال به يتغير بتغير الزمان والمكان (شأنه شأن الأحكام الفقهية) ، وأنّ فهم الأولين لا يعني أنه المرتكز (الأول والأخير) الذي يجب أن نبني عليه فهومنا ، ومن هنا نفهم سبب عدم اضطلاع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بتفسير القرآن .

(القــراءة)

في آية الجزية الكريمة ، يقول الله سبحانه وتعالى :- (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) .

وبقليل من التدبر ، سنجد أن دلالات الآية وسياقها تشيرنا إلى أن الجزية هي ليست مجرد (تحصيل المال) ، وإنما تشتمل على (مجموعة من العقوبات) تبدأ من (الغرامات) المالية ، وتنتهي بعقوبة (السجن) وحتى (الاعدام) أيضاً ، باعتماد أولي على الجذر اللغوي لكلمة (الجزية) ، والذي يعني اختصاراً (العقوبة والمكافأة) ، والتي نتداولها غالباً في تسميات شائعة في حياتنا اليومية مثل (العقوبة الجزائية) أو (الشرط الجزائي) أو (المحكمة الجزائية) ، ومن هنا نفهم أن (الجزية) المعنية في هذه الآية الكريمة هي (العقوبة) ، والعقوبة لا تأتي إلا عن (جناية) ، وقد أثبت الشارع المقدس في هذه الآية مجموعة الجنايات المستحقة لهذه العقوبة .

لقد بدأت هذه الآية المباركة بمفردة (قاتلوا) ، وواضح جداً أن مفردة (قاتلوا) تختلف عن مفردة (أقتلوا) ، حيث أن المعنى اللغوي لمفردة (قاتَلَه) هي (حَارَبَهُ ، أو عَادَاهُ ، أو دَافَعَهُ) ، ومنها نفهم بأنها تعني مقابلة القتال بالقتال ، ورد السيف بالسيف ، ونفهم بأنها تدل على (رد) فعل مضاد لفعل سابق ، ولا تعني (الابتداء) أو المبادرة أو السبق للقتل .

وإن مفردة (قاتلوا) لا تعني – بالضرورة – وقوع (القتل) وازهاق النفس ، بل ربما تكون الغاية من (القتال) هي الدفاع عن النفس ، أو درأ الأخطار ، أو الحفاظ على الممتلكات ، أو دفع مفسدة معينة ، وقد ورد في بعض أدبيات العرب إن فلاناً وفلاناً قد (اقتتلا) ساعة ، ثم (حيل) بينهما ، دون أن يقع القتل لأحدهما .

وإن عبارة (قاتله الله) لا تعني (قتله الله) ، بل تعني (لَعَنَهُ) ، بدلالة الآية (4) من سورة (المنافقون) التي نصت على إن أولئك الذين (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) ، ولقد (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) ولم (يقتلهم) بل معناها (لعنهم) .

وكذلك في الآية (30) من سورة (التوبة) يحدثنا الله سبحانه عن (المشركين) من اليهود والنصارى قائلاً :- (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) ، بيد أننا نجد المشركين من اليهود والنصارى أحياء بيننا ما زالوا ، وينعمون بحياتهم كباقي البشر ، رغم أنهم قد (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) .

ومن هنا جاء (الخطأ والخطيئة) الفادحان اللذان أديا إلى تسمية تحركات الرسول (صلى الله عليه وآله) وحملاته العسكرية بتسمية الــ (غزوات) ، غير منتبهين إلى أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ملتزم بقول الله تعالى (ولا تعتدوا) ، التزاماً وتطبيقاً لكثير من الآيات التي تنهى عن (الاعتداء) ، ومنها على سبيل المثال – لا الحصر – الآية الكريمة (190) من سورة البقرة التي تقول :- (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) .

إن المتتبع الحصيف للتأريخ سيفهم بأن حملاته (صلى الله عليه وآله) العسكرية تقع كلها تحت مفهوم (قاتلوا) وليس (أقتلوا) ، وإن كل الحملات التي قادها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والتي يسميها الببغاوات بـــ (الغزوات) إنما كانت (دفاعية) ، أو (استباقية) لوجود مؤامرة خارجية (تجهز لها جيش الأعداء) إيذاناً وتحضيراً لغزو الرسول (صلى الله عليه وآله) للقضاء عليه وعلى أصحابه ولقمع شريعته .

ومن هنا ، يأتي فهم خطير جداً ، وهو أن آية (الجزية) لا تمنح أتباع الشريعة المحمدية حق (تنفيذ عقوبة الجزية) أو تطبيقها ابتداراً أو ابتداءَ على (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) لمجرد اختلافهم مع أتباع الشريعة المحمدية بالاتباع ، بل يأتي تطبيق الآية حين ابتدار وابتداء (هؤلاء) لإشاعة الفساد والجريمة في المجتمع ، ووضع رغباتهم موضع التنفيذ .

إن أحد مرتكزات أو منطلقات (انتقاد) الشريعة المحمدية من قبل (المتشدقين) أو من بعض المستشرقين إنما جاء بناءً على آراء المفسرين الاسلاميين لآية الجزية ، واعتماد الفقهاء لهذه الآراء التفسيرية ، واعتبارها مرجعاً في استنباط حكم شرعي كان سبباً في أن يكون واحداً من آليات القمع ومصادرة حرية المعتقد ، بيد أن هذه الآية في حقيقتها إنما هي أنموذج لاحترام (حرية الرأي والمعتقد) ، واحترام لسلوك الآخرين غير المفضي لإيذاء المجتمع أو التقافز على حريات أفراده ، بدلالة إن (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) هم أحرار فيما يعتقدون ما لم يتحول معتقدهم إلى سلوك يؤذي المجتمع ويتجاوز حدود حريات الآخرين ، ويخدش متبنيات الأغلبية .

والغريب أن المفسرين الأوائل لم يعتمدوا قاعدة امتناع وجود (الترادف) في القرآن ، فإن القرآن يشير إلى المسلمين من أتباع غير الشريعة المحمدية بثلاثة أوصاف تدور بين (أهل الكتاب) و الذين (آتيناهم الكتاب) و الذين (أوتوا الكتاب) كل منها يحمل دلالة خاصة .

فــ (أهل الكتاب) هم جميع أتباع الشرائع السماوية بغثهم وسمينهم ، بمصلحهم وفاسدهم ، وأما الذين (آتيناهم الكتاب) فهم أتباع الشرائع السماوية من المؤمنين الخلص الملتزمين بماء جاءت به الكتب السماوية ، وأما بخصوص الذين (أوتوا الكتاب) فقد استخدمها القرآن للدلالة على أتباع الشرائع السماوية من المنحرفين عن التعاليم والناموس .

وكذلك لم يلتفت بعض المفسرين إلى أن (القرآن يفسر بعضه بعضاً) ، ولم يلتفتوا إلى عديد الآيات القرآنية المناقضة لتفسيرهم لآية الجزية ، والتي تمنح الانسان حرية المعتقد مثال ما ورد في سورة الغاشية :- (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) ، أو ما ورد في الآية (255) من سورة البقرة :- (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ، إلى غيرها الكثير الكثير من آيات القرآن الحكيم التي تضمن للأفراد حرية المعتقد ، وربما أوضحها وأهمها ما ورد في الآية (17) من سورة الحج ، حيث قال الله سبحانه وتعالى :- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، وهذه الآية لا تحتاج إلى (مفسر محترف) كي يشرح لنا معناها ، بل يمكن لأي إنسان بسيط أن يفهم منها أن القرآن يضمن حرية المعتقد ، ولا يفرض (إتاوة) على المخالفين ، ولا يمنح سلطة لأتباع الشريعة المحمدية في أن يفرضوا معتقدهم على الآخرين ، وإنما يأمر بحسن (التعايش) معهم في الدنيا بـــ (دولة مدنية) ، وإرجاء أمر معتقدهم ليوم الفصل ، وليس على من يتبع الشريعة المحمدية أن يحمل سيفه ويجول في الطرقات ليجبر الآخرين على الاصطفاف معه اعتقاداَ ، وهو – بالتالي – ليس مأموراً بأن : (يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) كما ورد في الموروث ، وإنما هو مأمور أن يطبق ما ورد في كتاب الله سبحانه حين يقول الله سبحانه وتعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) في الآية (125) من سورة (النحل) :- (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) .

إن أشد ما أعجبني وأدهشني في آية الجزية أنها في الوقت الذي يعتبرها السطحيون أداة (قمع وتهديد) تستهدف (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) فإنها في مضمونها الدقيق تمثل (طمأنة لهم) وتمنحهم حق (التعايش) السلمي داخل المجتمع (المحمدي) ، لأن القرآن في هذه الآية حين يأمر المضطلعين بــ (السلطة التنفيذية) أن يأخذوا على (يد) المتجاهرين بالفسوق والجريمة فإنما يسعى لتحقيق (المصلحة العامة) التي تؤدي بشكل انسيابي إلى تحقيق (المصالح الخاصة) ، وبهذا يتوفر الأمن والاستقرار والطمأنينة والبناء لكل أفراد المجتمع ، بصرف النظر عن ديانتهم ومعتقدهم .

وكما إن القرآن قد وضع حدوداً للعقوبات التي ينبغي أن تنفذ بحق (أتباع الشريعة المحمدية) ممن يقترفون الجرائم أو الموبقات أو أي تصرف آخر يفضي إلى الإضرار بالمجتمع ، فكذلك لا بد أن تكون هناك عقوبات تخص (المواطنين) من غير أتباع الشريعة المحمدية ممن يعيشون ضمن نطاق الأرض أو الدولة التي يحكمها أتباع الشريعة المحمدية ، تحت قاعدة (لا ضـرر ولا ضـرار) ، فجاءت هذه الآية لتضع الجميع أمام مسؤولية القانون .

إن الواضح من خلال أية الجزية ، هو أن الجزية عبارة عن (مجموعة من العقوبات) ، خاطب بها الشارع المقدس أتباع الشريعة المحمدية ، وإليهم ألقى مسؤولية تطبيقها للحفاظ على المجتمع ، ومن قبل ذلك قد وضع القوانين الاجتماعية والأخلاقية لهم .

ولو أننا انطلقنا من هذا الفهم الواسع للجزية ، وعاملناها على إنها (مجموعة من العقوبات) ، فهنا نستطيع أن نفهم بأن (أتباع الشريعة المحمدية) هم أيضاً مشمولون حرفياً بهذه الآية ، كون إن بعضهم تنطبق عليه عبارة (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وهم ليسوا بمعزل عن (الجزية) إذا انتهكوا حق المجتمع ، وتجاوزوا بحرياتهم حريات الآخرين ، حتى وإن كانوا بظاهرهم (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) و (بالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، ولكنهم (لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ، وهذا أيضاً يضاف كمزية من مزايا تحقيق المساواة والعدالة بين الأفراد ، ووضعهم على مسافة واحدة من (قوانين العقوبات) التي تحقق الأمن والاستقرار في المجتمع .

إن وجود عبارات : (لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) ينبغي إن تفكك بشكل موضوعي ليتم فهم المغزى من عموم الآية ، وأن لا نجتزئ منها ما يطابق المزاج (العربي – الاسلاموي) الذي اعتاد الفوقية وتغييب الآخر ، ودرج على مصادرة حق الآخرين في الاعتقاد ، منطلقاً من الغزوات والثارات وثقافة السيف .

إن التدبر الحقيقي ، والفهم المتأني لهذه الآية ، يوصل الباحث إلى حقيقة أن الله سبحانه وتعالى إنما أراد من خلال هذه الآية درأ الجريمة المتوقعة في المجتمع ، وليس إملاء الجيوب ، أو تعبئة خزانة (بيت المال) أو تمكين الخلفاء والملوك والأمراء المسلمين من شراء واقتناء المزيد من الجواري والغلمان وزقاق الخمر وإحياء الليالي الحمراء والترف ، بل نظر بذلك إلى أمن المجتمع ، وانسيابية حركة التطور والبناء .

ومن المؤكد أن هناك ثلاثة عوامل تمنع الانسان من ارتكاب الجريمة ، أو الوصول إلى الخطأ الذي يعد جريمة ، وهذه العوامل يمكن إجمالها بــ (الله) و (الضمير) و (القانون) ، ولعل (القانون) هو أكثرها تأثيراً في المجتمعات (خصوصاً ذات الانحدار البدوي أو القبلي) ، ولذلك قيل :- (يفعل السلطان ما لا يفعله القرآن) ، والسلطان هنا هو القوة (التنفيذية) للقانون .

هنا يتضح لنا إن القرآن ناظر إلى إمكانية وجود مجموعة من الذين (لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) داخل المجتمع ، وهم الذين يمكن أن يقترفوا الجريمة المدنية ، ولربما قاموا بالإبادة الجماعية لأفراد المجتمع لعدم وجود (وازع ديني) يمنعهم من اقتراف الجريمة ، ولشعورهم بعدم وجود (رقيب أعلى) يسجل عليهم تحركاتهم ، ولعدم خشيتهم من يوم يحاسب فيه الناس على ما اقترفوا ، ولذلك (منحهم حق الاعتقاد والالحاد) ، ولكن ضمن شروط قانونية تحمي المجتمع منهم .

وهنا علينا أن نتوقف عند عبارة : (لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ، وعلينا أن نعي بأن (مَا حَرَّمَ اللَّهُ) هي إشارة واضحة تدل على احترام (الشرائع) التي سبقت الشريعة المحمدية ، وإن الذين (لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) إنما تختص بأتباع الشرائع السماوية الأقدم من حيث عدم التزامهم بــ (الوصايا العشـر) ، ولذلك فهي متبوعة بمفردة (وَرَسُولُهُ) لتبين أن ما جاءت به شريعة محمد (صلى الله عليه وآله) وجميع ما جاءت به شرائع الرسل (عليهم السلام) من قبله فهي (معمول بها) وسارية المفعول .

ومن هذا الفهم ، فإن (المارقين) على الشرائع السماوية ، وغير المحترمين – بكسر الراء – لها ، فهم مهيؤون لاقتراف الجرائم والقتل وغيرها ، ولأنهم أساساً (لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ولذلك فهم بالنتيجة (لا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ، وبالتالي يصبح عندهم اقتراف المحرمات ونشرها داخل المجتمع أمراً طبيعياً ومستساغاً ، كالبغاء والدعارة والمتاجرة بالمخدرات وقول الزور والفاحشة وغيرها من الموبقات والمحرمات التي وردت في (الوصايا العشر) ، والتي يؤدي تجاوزها إلى انهيار المنظومة القيمية داخل المجتمع ، فجاءت هذه الآية رادعة ومانعة لهؤلاء (على اختلاف انتماءاتهم الظاهرية) حفاظاً على سلامة وديمومة المجتمع وأمنه .

إن الشرائع السماوية كلها مبتنية على ما يسمى بــ (الوصايا العشر) ، والتي جاءت في الموروث المسيحي واليهودي كما يلي :- (لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى / لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا ، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ ، لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ / لا تحلف باسم الهك باطلا / اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ / أكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُك / لا تقتل / لا تزن / لا تسرق / لا تشهد شهادة زور / لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ ، لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ).

وهي التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النص القرآني ، وبتفصيل أكثر حيث يقول الله سبحانه :- (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الأنعام (151-152)

وكذلك ما ورد في آيات من سورة (الاسراء) بشكل أكثر تفصيلاً وتجلية في قوله تعالى :- (لَّا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا (22) وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)

ومن هنا ، فإن الذين (لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) فمن المؤكد أنهم لا يقرون بــ (الوصايا العشـر) ولا يتعبدون بها ، خصوصاً حين يتساوق عدم إيمانهم بــ (موت الضمير) ، فيتحول عدم الايمان بالله وعدم الاقرار بــ (مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) إلى سلوك يؤدي إلى هتك حرمة المجتمع .

وأما عبارة :- (لَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) فإنها تحتاج لوقفة مهمة ، وعلينا ابتداءً أن نعرف من خلال آيات القرآن ما هو (دِينَ الْحَقِّ) الذي يعنيه القرآن في هذه الآية ، للوصول إلى فهم بعيد عن التطرف ، وبعيد عن تغييب ومصادرة الآخر .

إنّ المتتبع المتدبر لآيات القرآن الكريم ، يشعر بأننا نعيش خطئاً شائعاً في حصر تسمية (المسلمين) بأتباع الشريعة المحمدية ، وهذا الخطأ الشائع أخذ بالانتشار في كل بقاع العالم ، حتى أصبحت كلمة (مسلم) (Muslim) تطلق علينا – نحن (أتباع الشريعة المحمدية) – دون غيرنا ، وأصبح إرسالها في الكتب والمقالات والبحوث ووسائل الاعلام إرسال المسلمات ، وهذا كله بسبب (احتكار) أتباع الشريعة المحمدية لهذه التسمية ، وعدم تدبرهم لآيات القرآن المبددة لهذا الزعم ، مع وجود جذور تاريخية كانت عاملاً في (تأطير) أتباع الشريعة المحمدية بهذه التسمية حصراً .

والحقيقة الجلية في القرآن الكريم وآياته الواضحات ، إن الله سبحانه وتعالى قد أطلق على أتباع (الشريعة المحمدية) تسمية (المؤمنون) ، ولم يطلق عليهم تسمية (المسلمون) ، لأنهم يمثلون جزءاً من مجموع (المسلمين) من أتباع بقية الشرائع ، وليسوا هم (الأصل) في هذه التسمية ، بدلالة ما ورد في كتاب الله ، في غير موضع ، وأقربها ما ورد في الآية (62) من سورة البقرة ، والتي نصت على :- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) .

وسواء رضي أتباع بقية الشرائع السماوية بكونهم (مسلمون) أم رفضوا ذلك ، فالأثر المترتب على قبولهم ورفضهم ليس (مهماً وخطيراً) بقدر أهمية وخطورة فهم وإدراك (أتباع الشريعة المحمدية – المؤمنون) لهذه المفردة ، وقبولهم وتسليمهم بها ، أو رفضهم إياها .

فرفض أتباع الشريعة المحمدية (الذين آمنوا) للمعنى الحقيقي لمفردة (المسلمون) ، قد ترتب عليها أثر خطير ، وما زال هذا الأثر واضحاً من خلال موجات وفتاوى (التكفير) ، وانعكس بدوره على أسلوب أتباع الشريعة المحمدية في تعاملهم وتعاطيهم وعلاقاتهم وتحالفاتهم مع أتباع بقية الشرائع ، وليس بوسعنا أن ننكر ما خلفه هذا الرفض من علاقات متوترة ، أو حروب (دينية – سياسية) راح ضحيتها الكثير الكثير من البشر على مدى السنين الطوال .

الواضح جداً من خلال النصوص القرآنية ، بأن جميع أتباع الرسالات والشرائع السماوية هم (مسلمون) ، مع اختلاف (التوصيفات) الدلالية لانتمائهم لشرائعهم أو أنبيائهم .

فأتباع الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) هم (مسلمون – مؤمنون) ، وأتباع موسى (عليه السلام) هم (مسلمون – يهود) ، وكذلك النصارى والصابئين ، فكلهم تطلق عليهم تسمية (مسلمون) بإضافة تميزهم عن غيرهم من أتباع الشرائع .

والحقيقة التي غفل – و يغفل – عنها الكثير ممن يقرأون القرآن (لا يبلغ منهم التراقي) ، إن الدين واحد ، وليس متعدداً ، ولا توجد حقيقة اسمها (أديان) ، وإن ما يستخدمه (أتباع الشريعة المحمدية) في مؤتمراتهم من شعار أو عبارة (التقريب بين الأديان السماوية) هي عبارة خاطئة ومخالفة لمنطوق آيات الله في كتابه العزيز ، لأن هناك حقيقة واضحة أثبتها القرآن لتدل على (عدم) تعدد الأديان (السماوية) ، وهذا واضح جداً في كتاب الله سبحانه وتعالى حيث يقول :- (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) / آل عمران (19) ، وليس بعيداً عن هذا المعنى قوله تعالى :- (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) / آل عمران (85) .

وفي الوقت الذي جاءت فيه هاتان الآيتان لتكونا أساساً في (وحدة الشعوب) على الأرض ، ولتكونا منطلقاً لأتباع الشريعة المحمدية في أن يفتحوا أبواب الوحدة والأخوة أمام أتباع الشرائع السماوية ، فقد تحولت هاتان الآيتان – لدى أتباع الشريعة المحمدية – لمصدر من مصادر التكفير وشن الحروب والقتل والكراهية ، واتخاذهما ذريعة لتكفير كل من (لا ينتمي) لرسالة محمد (صلى الله عليه وآله) ، واعتباره كافراً و (من الخاسرين) ، وهذا ناشئ عن سوء أو محدودية أو قصور الفهم ، وربما ناشئ عن توجيه هذا الفهم توجيهاً (سياسياً) لا علاقة له بالدين الحقيقي .

ولو أن أتباع الشريعة المحمدية قد كلفوا أنفسهم أن يقرأوا ما أشار إليه إبراهيم (عليه السلام) في وصيته لأبنائه قائلاً :- (وَ وَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) / البقرة – (132) ، لكفونا وكفوا الناس شرهم .

ولأن (الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) ، فهذا ينطبق على الشرائع ، فالشرائع (متعددة) ، وهي التي جاء بها الأنبياء من أولي العزم ، وهي (خمس) وليست واحدة ، وليس أكثر ، بدلالة صريح القرآن في نصه الواضح :- (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) / الشورى – (13) .

مما سبق يتضح بأن (الدين) واحد ، وهو (الاسلام) ، ولكن الشرائع (خمس) ، وهي شرائع الأنبياء نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد (عليهم أفضل الصلاة والتسليم) ، وهم الذين أمرهم و (أوصاهم) الله (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ، وهو (الاسـلام) بمعناه الأشمل .

ويمكننا أن نستفيد من ذلك أن أول شريعة نزلت إلى الأرض هي شريعة (نوح) عليه السلام ، تبعتها بقية الشرائع بمقتضى تطور المجتمع ومسيرة التأريخ ، فــ (نوح) عليه السلام هو أول المرسلين ، وشريعته هي الأولى ، وأما ما قبله فإما أن لا يكون هناك أنبياء ، وأما أن يكون هناك أنبياء ، ولكن اندثرت أخبارهم ، ولم يعد لما جاءوا به من أثر ، بدليل قول الله تعالى :- (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) / النساء – (163) .

ولقد يرى المتتبع المتدبر لكتاب الله ، إن الآية (3) من سورة (المائدة) قد أشارت إشارة واضحة إلى مسألة (الدين) و (الشريعة) حيث نصت على :- (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) ، فكمال الدين هنا تم بـــ (كمال الشريعة) ، وبكمال الشريعة صحت تسمية أتباع الشريعة المحمدية بأنهم (مسلمون) ، بدلالة أن الله تعالى يقول :- (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) .

وقبل أن يحتكر أتباع الشريعة المحمدية تسمية (المسلمون) لأنفسهم ، ينبغي عليهم أن يعرفوا بأن (نوحاً) عليه السلام كان هو من وضع لبنة الاسلام الأولى ، كدين وشريعة ، بدلالة قول الله تعالى :- (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُون * فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) / يونس (71) ، حين جاءه الخطاب بأن (يسلم) وجهه لله رب العالمين .

ورغم أنّ تسمية (المسلمين) قد بدأت مع نوح (عليه السلام) ، ولكنها أخذت بالانتشـار في زمن إبراهيم (عليه السلام) ، وهذا ما ينص عليه صريح القرآن ، بدلالة الآية :- (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ) / الحج (78) ، وهو عليه السلام من بين معنى (الاسلام) ووضعه بالنقيض من كلمة (الشرك) .

فديانة إبراهيم (عليه السلام) هي (الاسلام) ، وشريعته (الحنفية) .، بما دلت عليه الآية السابقة ، والآية الكريمة التي جاءت على لسان إبراهيم عليه السلام حيث يقول معبراً عن نفسه :- (إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) / الأنعام – (79) .

وتسمية (المسلمون) لم تتوقف عند إبراهيم (عليه السلام) ، ولم تدخل إليها شائبة من (ديانة) أخرى ، ولم يأت نبي أو مرسل من بعد إبراهيم (عليه السلام) بأية ديانة أخرى غير الاسلام ، فكل من جاء بعد إبراهيم من الأنبياء والمرسلين (عليه وعليهم السلام) هو من (المسلمين) ، ولم يأتوا بديانة جديدة غير الدين (الاسلامي) الذي ارتضاه الله سبحانه للناس كافة ، حتى أن (الاسلام) كان أمنية ودعاء انتماء إبراهيم عليه السلام (التشريفي) والتكليفي ، كما يتضح من الآية :- (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) / البقرة – (<span dir=”