كان ينبغي ألا تختزل القضية الأمازيغية في الجزائر في الحدود الجغرافية أو في اللعب الأيديولوجي الذي يستهدف طمس ركن أساسي من الهوية الجزائرية، بل كان من السليم التعامل معها كمسألة حضارية تعني الوطن برمته.
منذ سنوات طويلة والقضية الأمازيغية في الجزائر تتصدر الواجهة السياسية مرَة كمطلب ثقافي هووي، ومرَة كدعوة سياسية إلى الحكم الذاتي أو إلى الانفصال، ومرة أخرى كمشكلة عويصة تتصل بأبجدية اللغة الأمازيغية التي لم تجد بعد حلا سلسا ومرضيا كأن يتمَ الاتفاق على الحروف التي ينبغي أن تكتب بها هذه اللغة، وببرنامج إخراجها من الطور الشفوي إلى طور يحقق ترقيتها لتصبح لغة العلم والفن والإدارة والتقنية والفكر. في كل هذه المرات تكتفي الأطراف المتجاذبة حينا والمتصارعة حينا آخر بتبادل خطابات متشنّجة ومعبأة بالاتهامات، والرفض المتبادل على نحو ولَد ولا يزال يولَد التوتر والانفجار. ويلاحظ هنا أن التيار الأمازيغي الراديكالي ينظر بريبة إلى مجموعة من المفاهيم والتسميات التي تلغي أو تحجب الهوية الأمازيغية مثل: الجزائر دولة عربية بدلا من دولة أمازيغية – عربية، والمغرب العربي بدلا من المغرب العربي – الأمازيغي وهلم جرا.
منذ البداية كان ينبغي ألا تختزل القضية الأمازيغية في الجزائر في الحدود الجغرافية الجهوية أو في اللعب الأيديولوجي المغرض أو في الرهانات السياسية التي كانت تستهدف طمس ركن أساسي من الهوية الجزائرية، بل إنه كان من السليم التعامل معها كمسألة ثقافية وحضارية وتاريخية تعني الوطن برمته ومستقبل استقراره ووحدته في إطار التعددية الثقافية واللغوية الوطنية والحكم الديمقراطي.
وفي الواقع فإن القضية الأمازيغية لم تظهر إلى السطح في الجزائر في مرحلة الستينات من القرن الماضي، أي بعد الاستقلال فقط، بل طرحت بحدة قبل ذلك بسنوات طويلة وبرزت أكثر في عامي 1945 و1947 وخاصة بين صفوف حزب الشعب الجزائري الذي كان يضم فسيفساء النزعات السياسية الإسلامية، والقومية العربية والأمازيغية والفرنكوفونية الجزائرية. وفي هذا الخصوص فإن الكتابات التاريخية التي وثّقت تفاصيل وتداعيات ذلك الصراع الناشب بين تلك التيارات تؤكد بوضوح أن الفرقاء لم يصلوا إلى أي اتفاق مبدئي جماعي يقضي بحل عادل للبعد الأمازيغي ضمن الأبعـاد الأخـرى المشكّلة للهوية الوطنية الجزائرية، بل إن مواقفهم قد بقيت في ذلك الوقت متوازية وصراعية، وجراء ذلك، فضلا عن عوامل أخرى، فقد ورث المجتمع الجزائري هذه التركة الثقيلة في فترة الاستقـلال، أما النظام الحاكم الذي تولى مسؤولية إدارة البلاد في المرحلة المبكرة من الاستقلال الجزائري فقد ظل يراوغ ويناور على مدى سنوات طويلة حتى انفجر الربيع الأمازيغي في أبريل 1980 والذي أسفر عن قتلى وجرحى في المنطقة الأمازيغية واعتقال وسجن عدد من الفاعلين حينذاك في مشهد النضال من أجل الثقافة الأمازيغية.
وفي تلك الفترة بالذات قام بعض الكتاب الجزائريين الممثلين للتيار القومي العربي، وأغلبهم من قيادات حزب جبهة التحرير الوطني أو من المقربين منه، بإنجاز كتب يفترضون فيها أن اللغة الأمازيغية ليست إلا فرعا مـن اللغة العربية وأن الأمازيغ منحدرون من اليمن بالدرجة الأولى. وفي هذا السياق نشرت أيضا مقالات هنا وهناك يحاجج أصحابها بأن “علم الأمازيغ هو من تصميم اليهودي جاك بينيت وأن هذا التصميم مؤسس على رموز وثنية تعود إلى قبائل أفريقية”، وزيادة على ذلك فإن هؤلاء وغيرهم ذهبوا إلى القول إن جاك بينيت بالذات “هو من أسس أيضا الأكاديمية البربرية في فرنسا عام 1966”، ولكن الأعضاء الجزائريين الذين أسسوها ردوا على هؤلاء بالقول إن تأسيسها كان أصلا من طرف عدة أساتذة وأكاديميين وفنانين وصحافيين أمازيغ جلهم من منطقة القبائل الجزائرية بقيادة محند أراف يسعود، وأن الهدف منها هو اعتماد “الخط الأمازيغي المعروف بتيفيناغ والدفاع عن الثقافة الأمازيغية والنهوض بها”.
ولا شك أن هدف معظم هذه الكتب وتلك المقالات المنشورة في ذلك الوقت والتي كان يشجعها حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم وبعض الجهات ذات النزعة الإسلاموية كانت تهدف إلى إيجاد أو اختراع مسوغات ومبررات لتعطيل مشروع الهوية الثقافية واللغوية الأمازيغية.
ومن الواضح أيضا أن الاتهامات التي كانت توجه للحركة الأمازيغية تتمثل في الغالب في وصم قيادتها بالتبعية لفرنسا وتلخيص أهدافها في تنفيذ المشروع الثقافي الفرنكوفوني في البلاد الجزائرية وحجتها في ذلك أن استخدام الحروف اللاتينية لكتابة النصوص الأمازيغية هو دليل قاطع على ذلك. وفي الحقيقة فإن جزءا من التيار الأمازيغي لم يكن يقدّر الخطورة السياسية التي ينطوي عليها استبدال حروف التيفيناغ بالحروف اللاتينية، الأمر الذي قوَّى حجة مثقفي النظام الحاكم وخاصة بعض المعربين منهم المرتبطين بعقيدة القومية العربية المتطرفة وكذلك التيار الإسلاموي التقليدي الذي يحصر الهوية الوطنية الجزائرية في بعدي اللغة العربية والإسلام وموروث حركة التحرير الوطني ضد الاستعمار الفرنسي فقط.
وفي الحقيقة فإن النظام الجزائري بدءا من 1962 إلى غاية نهاية مرحلة حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد هو المسؤول مباشرة على إبقاء المسألة الأمازيغية ضمن دائرة السياسة المغلقة، علما وأن محاولته لترقيع الموقف في فترة الثمانينات من القرن الماضي من خلال تعديل الميثاق الوطني لم تثمر وذلك لأسباب كثيرة منها أن ديباجة ذلك الميثاق التي نصت على البعد الأمازيغي كمكون للهوية الجزائرية إلى جانب المكوّنين الإسلامي والعربي قد بقيت حبرا على ورق، حيث لم تترجم ماديا في الممارسة.
أما الخطوة الثانية التي اتخذها النظام الجزائري والتي انتهت بالاعتراف باللغة الأمازيغية لغة وطنية فقد كانت مجرد تكتيك يقصد منه جرّ الحركة الأمازيغية إلى التنفيس السيكولوجي والكف عن التظاهر ونقد النظام الحاكم، والدليل على ذلك هو أن هذه اللغة المعترف بها شكليا لم تستخدم رسميا في الإدارة وفي المعاملات الرسمية، وفضلا عن ذلك فإنها لم تعمم بقوة القانون في المحيط العام على مستوى القطر كله وحتى في المنطقة ذات الأغلبية الأمازيغية.
وتدخل الخطوة الثالثة المتمثلة في إدراج اللغة الأمازيغية في الدستور في السياق نفسه وبسبب ذلك نجدها لا تزال تعاني من المشكلات ذاتها. ففي تقديري فإن اتهام الحركة الأمازيغية المطالبة بالحكم الذاتي حينا وبالانفصال حينا آخر بتنفيذ أجندات خارجية وبالخيانة أمر يلغي الحوار الديمقراطي من الأساس. وهكذا فإن البديل الحقيقي هو الجلوس إلى طاولة الحوار مع هذه الحركة ومع جميع الأحزاب المعارضة من أجل الوصول إلى حلول حقيقية للمشكلات الوطنية التي تؤجل باستمرار.
ومن الضروري فهم الجماعة المدعوة بـ“الماك” التي تدعو إلى انفصال المنطقة الأمازيغية عن باقي مناطق البلاد على أنها ردّ فعل على الإقصاء مثلما هي عرض ونتاج لعدة عوامل متضافرة ومعقدة تتمثل بإيجاز في منع الحوار الجدي والشفاف مع المعارضة الأمازيغية الراديكالية حول المسألة الثقافية الوطنية بشكل عام، وحول الكيفيات التي بموجبها تخرج الثقافة الأمازيغية من سجن الفولكلوريات والشفوية إلى فضاء العصرنة والتدوين والممارسة، وفي فشل الجزائر في بناء مؤسسات الدولة الحديثة والديمقراطية، وفي انتشار الفساد المالي على مستوى هرم السلطة وامتداداته في الجزائر العميقة، وفي انعدام الحلول للأزمات الاجتماعية والاقتصادية العالقة، وفي استفحال الحكم الفردي في كافة مفاصل أجهزة الدولة الأمر الذي دمَّر التعددية الحزبية وأفرَغها من محتواها، وفي الإخفاق في بلورة المشروع الثقافي الوطني العصري الذي يضمن الإقلاع باتجاه تحديث الإنسان الجزائري ومحيطه المادي والرمزي.
نقلا عن العرب