يتميز مشهد الأحزاب الإسلامية في الجزائر بعد خسارتها الفادحة للانتخابات التشريعية مؤخرا، بالانقسام الذي بدأ يطفح بين قيادات حزب حركة مجتمع السلم وفي المقدمة بين رئيسه السابق بوجرة سلطاني وجماعته من جهة، ومن جهة أخرى بين الرئيس الحالي لهذا الحزب عبدالرزاق مقري الذي يرفض تكرار سيناريو المشاركة مع أحزاب السلطة في الحكومة التنفيذية.
ويبدو واضحا أن اجتماع عبدالمجيد مناصرة، الذي هو من القيادات الإسلامية الجزائرية المعروفة، بالوزير الأول عبدالمالك سلال هو بمثابة إشارة منه بقبول غير مباشر للمشاركة في الحكومة. فهل تعني هذه الانقسـامات بداية تفكك للتيـار الإسـلامي السياسي الجزائري وانفراد النظام الحاكم وأحزابه بالسلطة لسنوات طويلة قادمة؟
لا شك أن الانتخابات التشريعية الجزائرية الأخيرة التي فازت فيها أحزاب السلطة بأغلبية مقاعد البرلمان كانت بعد أن تمكن النظام الجزائري فعليا، في مرحلة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، من التفتيت التدريجي والمنهجي للتيـار الإسلامي إلى ملل ونحل بواسطة آلية الهيمنة، وأنه بذلك قد حقق هدفا استراتيجيا يتمثل في تجريدها، باستخدام أساليب ناعمة، من أي تأثير ملموس في الحياة الوطنية حيث اختزلت مهمتها في تحويلها إلى ديكور انتخابي شكلي في مواسم الانتخابات البلدية أو الولائية أو البرلمانية أو الرئاسية.
وفي الحقيقة فإن حلم التيار الإسلامي الجزائري في الوصول إلى سدة الحكم، خاصة بعد تجربة العشرية الدموية الدرامية، بغية بناء هياكل دولة إسلامية قطرية في إطار نسق الدولة الإسلامية الكبرى متعدد الأعراق والمذاهب والإثنيات واللغات ووفق نموذج الخلافة الإسلامية القديم، قد تبخّر فعليا.
بسبب هذا الفشل نجد بعض أقطاب التيار الإسلامي الذين يشغلون مناصب قيادية عليا في الأحزاب الإسلامية الجزائرية يلعبون راهنا اللعبة البراغماتية للتنفيس عن الإحباط من ناحية، ومن جهة ثانية فإنهم يقومون بالبحث عن مواقع تضمن لهم ولأحزابهم الاستمرار في الساحة السياسية ولو شكليا وذلك بالدعوة إلى الانضمام إلى فضاء الأجهزة التي تتحكم فيها السلطة الحاكمة عن طريق ما يسمى بالاشتراك في الحكومة التنفيذية.
لا شك أن النظام الجزائري الحاكم يستغل مثل هذه اللعبة البراغماتية التي تقوم بها عناصر من قيادات الأحزاب الإسلامية الجزائرية، لأنها قد مكنته من تحقيق هدفين مهمين في آن واحد ويتمثل الأول في تسويق نفسه، على مستوى الجزائر العميقة كنظام يقبل بالتعددية الحزبية ومنفتح على الحركة الإسلامية ومستوعب لها ويشركها أيضا في الحكم.
أما الهدف الثاني الأكثر خطورة فيتلخص في أن النظام الجزائري يسعى لإظهار الأحزاب الإسلامية التي تلعب براغماتيا في ملعبه، كأحزاب تلهث وراء بريق السلطة فقط بأي ثمن، وأنها بالتالي متلوّنة وغير مبدئية وأبعد ما تكون عن الالتزام بأي عقيدة تتأسس عليها شخصيتها القاعدية وتتصرف سياسيا على أساسها.
على ضوء ما تقدم يمكن لنا فهم لماذا يستجدي الآن أحد رموز التيار الإسلامي الجزائري، وهو بوجرة سلطاني، النظام الذي همشه وعنّفه وطارده على مدى سنوات طويلة -قبل تدشين مرحلة التعددية الحزبية- لكي يتصدق عليه أو على بعض أفراد جماعته بحقائب وزارية ترضي نرجسيته وحبه للظهور في المشهد السياسي الوطني كمسؤول له ثقل كبير، علما أنه يعرف تماما أن مثل هذا السلوك قد لعب ولا يزال يلعب دورا مفصليا في حرق أوراقه هو شخصيا، وفي حرق أوراق حزبه بما في ذلك طمس الصورة العامة للتيار الأصولي الإسلامي أمام الرأي العام الجزائري.
وبالفعل فقد تمكن النظام الجزائري من تحويل الأحزاب الإسلامية إلى مجرد بيادق يحركها وفقا لمخططاته وأهدافه. لا بد من طرح هذا السؤال؛ لماذا يريد بوجرة سلطاني، رئيس حزب حركة مجتمع السلم سابقا، أن يحيي من جديد تجربة انتهازية فاشلة سياسيا وأخلاقيا، وهي تجربة التحالف مع النظام الحاكم وأحزابه لتشكيل حكومة متنافرة الألوان الأيديولوجية ومخترقة من طرف الأجهزة الأمنية ومسخّرة لخدمة أغراض مجموعة تلمسان/ الغرب الجزائري التي تسيطر على مقاليد السلطة السياسية والتنفيذية جهرا حينا ومن وراء الستار حينا آخر؟
وهل سيستطيع عبدالرزاق مقري، الأمين العام الحالي لحزب حركة مجتمع السلم، أن يتمسك بموقفه الذي أعلن عنه مرارا وتكرارا والمتمثل في رفضه للتحالف مع أحزاب النظام الحاكم والعمل معها في إطار حكومة واحدة، أم أن مجلس شورى هذا الحزب سيقلَم أظافره ويخضعه لمشيئة المجموعة التي يقودها ويؤثر فيها بوجرة سلطاني. علما أن موقف هذا الأخير من غريمه عبدالرزاق مقري واضح، وهو أنه يريد جزئيا أن يطيح به من منصبه كرئيس لحزب حركة مجتمع السلم (حمس) ليعود من جديد إلى ترؤسه مجددا، ثم القيام بعد ذلك بتنفيذ سيناريو الارتماء في أحضان النظام الحاكم بشكل كامل كما فعل سابقا في إطار ما كان يدعى بالتحالف الرئاسي.
بوجرة سلطاني يتهم عبدالرزاق مقري في مجمل تصريحاته التي تنقلها عنه مختلف وسائل الإعلام الجزائرية بأنه يقوم بتخويف مجلس شورى حزب حمس بالاستقالة ليردعه عن اتخاذ قرار الانضمام إلى الطاقم الحكومي الذي يعمل الوزير الأول عبدالمالك سلال على تشكيله بالتشاور مع حزبي السلطة، حزب جبهة التحرير وحزب التجمع الوطني الديمقراطي، المسيطرين على أغلبية مقاعد البرلمان، ومع أحزاب متوسطة وصغيرة أخرى تعدّ جزء عضويا من ترسانة النظام الجزائري.
من الواضح أن الخلاف الناشب، في هذه الأيام، بين بوجرة سلطاني وعبدالرزاق مقري في عقر حزب حركة مجتمع السلم هو بمثابة ترجمة لشرخ عميق قائم في تضاريس البنية العامة للتيار الإسلامي السياسي الجزائري، وبالتالي فهو ليس مجرد غيض من فيض الخلاف الشخصي حول زعامة التيار الإسلامي ككل، أو على زعامة حزب حركة مجتمع السلم، بل إن تحليل تناقضات خطابات الأحزاب الإسلامية الجزائرية، التي تترجم إلى انقسامات وإلى مواقف وممارسات متضاربة تجاه النظام الحاكم، يمكن أن يوضّح لنا أن ما يحدث هو بداية نهاية طور ما كان يسمى بالكتلة الإسلامية الجزائرية، وبداية طور تمزق التيار الإسلامي الذي يرى فيه النظام الحاكم فرصة ذهبية لفرض واقع جديد لا مكان فيه لمعارضة إسلامية أو وطنية أو علمانية فاعلة لها عمق شعبي وقادرة على صنع الحدث السياسي في الجزائر.
نقلا عن العرب