23 ديسمبر، 2024 1:47 م

الجرائم المجتمعية .. والمسؤولية الجمعية

الجرائم المجتمعية .. والمسؤولية الجمعية

ازدادت في الأسابيع والأيام الماضية ظاهرة تتعلق بقيام وسائل الإعلام بنشر أخبار عن الجرائم المحلية المروعة ، بعضها نقلا عن مصادر رسمية والبعض الأخر مستقاة من مواقع الحدث كسبق إعلامي ، وتتضمن هذه الجرائم القتل والاغتصاب الفردي او الجماعي بين أفراد العائلة الواحدة او بين الأقرباء او بين الجيران ، والبعض منها تنقل بشكل مقزز من خلال سرد تفاصيل القيام بتلك الجرائم وأدواتها من خلال النحر او تقطيع الأجساد او الحرق او الإغراق او دفن الإحياء ، او غيرها من الأساليب التي تثير حفيظة الكثير وتحبس الأنفاس وتقشعر لها الأبدان ، والبعض من تلك الجرائم تتعدى حدودها روايات ( ابر طبر ) أيام زمان وتصل لحد بث الرعب عند الرأي العام كأن يشار بان القتل تم لعوائل بأكملها من قبل الابن او الأب او بسبب خطوبة او طلاق او من خلال الاتفاق بين الضحايا والجناة ، كما تتضمن جرائم تتعلق بالزنا بالمحرمات ، وغيرها من الأمور التي يصعب ذكرها هنا لبشاعتها من حيث أسلوب التنفيذ او دوافعها ومسوغاتها التي ربما تعود لأسباب تافهة ، وبشكل يجعلنا نتساءل هل إن مثل هذه الجرائم التي لم نتعود على سماعها سابقا الا في الروايات والأفلام العربية والأجنبية جديدة على مجتمعنا او إنها كانت مخفية على الجمهور ولم تعلن في حينها ، فما اعتاد عليه مجتمعنا هو السماع عن جرائم محلية تتعلق بالسطو والسرقات والتزوير وانتحال الصفة والاحتيال وخيانة الأمانة او القتل خطئا او بالعمد ، وكانت أعدادها محدودة ومصير اغلبها الإعدام او إلايداع في السجون على سبيل العقوبة او الإصلاح ، ولكن ما يحير في هذه الأيام عدد ونوع تلك الجرائم وشرح مجرياتها بالتفصيل الممل ، وأحيانا تنشر صور عن تلك الجرائم ويحجب عنها وجوه الضحايا والجناة لأسباب تتعلق بتطبيق المعايير المهنية في النشر .
وبغض النظر عن الطريقة التي تنشر بها أخبار تلك الجرائم يبقى السؤال قائما عند البعض هل إن النشر ضروريا ويحقق فوائد أم أضرارا للناس ؟ ، وهناك من يعتقد إن الهدف من النشر هو توعية المجتمع بخطورة الأفعال التي يمكن أن تتطور لتتحول من خلاف او اختلاف بسيط إلى جرائم بشعة رغم تفاهة او بساطة الأسباب بهدف تداركها والحؤول دون الاندفاع في التصرف المتشدد في الحالات التي يمكن ان تحل بالتفاهم والتوجيه ، وهناك من يقولون إن المجتمع يجب أن يدرك حقيقة ما يجري بالفعل لتوعية الأبناء وتحذيرهم من الانسياق وراء الإجرام وما يترتب عليه من عقوبات وخزي وعار ، في حين إن هناك من يختلف تماما مع تلك الآراء ويرى ضرورة التكتم على هكذا جرائم وإبقائها ضمن حدودها في التحقيق والقضاء وعدم إشاعتها لكي لا نحرك الجنوح الذي قد يكون غريزة لدى البعض ممن لهم دوافع واستعدادات في السلوك ألجرمي ، فالفئات الضعيفة ( الهشة ) ربما يتولد لديها الإحساس بان ارتكاب مثيلاتها أمرا موجود في المجتمع ومن الممكن تكرارها هنا او هناك ، وأصحاب هذا الرأي ينتقدون بشدة نشر أخبار وتفاصيل وأدوات ودوافع تلك الجرائم لمنعها وعدم تشجيع تقليدها وارتكابها من قبل أفراد يعانون من التفكك الأسري او الأمراض النفسية وعسر الحال وغياب التوجيه الأسري وغيرها من المدعمات التي يفترض أن تكون مانعا للسلوك ألجرمي ، ولان هذا النوع من الجرائم يثير مشاعر الأغلبية من حيث غرابتها وبشاعتها فمن المحتمل أن تكون أكثر تداولا في المجتمع ، وبذلك تتوفر وسيلة سريعة لنقل تفاصيلها و أحيانا تتخللها بعض الإضافات ، كما إن البعض ينتابه الخوف من تسلل هكذا أفعال إلى محيطهم الأسري فيتخذون إجراءات يعتقدون إنها مانعة ولكنها تزيد الطين بلة من خلال العزوف عن إقامة العلاقات الاجتماعية او تقليلها وتقييدها او إبقائها تحت الرقابة والتشدد الزائد عن حده المعقول .
وبمعزل عن وجهات النظر في إظهار هذه الجرائم بوسائل الإعلام او حصرها بحدودها الرسمية المغلقة ، فإنها جرائم قد حدثت وتحدث في مجتمعنا ووجودها حقيقي وليس افتراضي ، وانتشارها لهذه الحدود تتحمل مسؤولية وقوعها العديد من الجهات والواجهات في المجتمع ، فهي إحدى النتائج السلبية من الانتشار والانفتاح غير المسبوق بمقدمات ، واغلبها من مخرجات التقنيات الحديثة من الستلايت والانترنيت وأجهزة وبرامج الألعاب واللهو المعبئة بالرذيلة والعنف والشذوذ وتغليب القوة على العقل ، وتتحمل بعض العوائل مسؤولية جزءا مما يحصل عندما تترك فراغات كبيرة في إبقاء بعض المشكلات كمتعلقات بدون حلول ، او من خلال إغراق الأبناء بكل المزايا من دون ضوابط وانضباط ، وقد وصل الحال بالبعض بجعل الأطفال الرضع بحالة إدمان على الموبايل او غيرها لمشاهدة ( اليو تيوب ) كوسيلة لغرض اللهو والتشجيع ، كما إن أفلام الاكشن والرعب تنتشر بشكل كبير ويلجأ البعض في مراحل ومواقف لتقليدها ، ويضاف لذلك كله انتشار المسكرات والمخدرات والمهدئات العقلية وغيرها من وسائل خراب العقول ، وكل ذلك يجري في ظل مجتمع يمر بحالة غاية في التعقيد من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية كونه ينتقل من حالة لأخرى من دون حلول جذرية للمشكلات ، ولسنا هنا بصدد الدعوة لحرمان مجتمعنا من امتيازات التقنيات الحديثة بوسائلها المتاحة ، ولكننا بحاجة ماسة لصياغة طرق ملائمة في التصدي لتلك الجرائم المجتمعية و لكل المخالفات والجنح والجنايات ومعالجة أسبابها ودوافعها ، ويتحمل الكل المسؤولية الجمعية لذلك بما فيها وسائل الإعلام التي يجب إن تفحص جدوى نشر أخبار الجرائم وتفاصيلها بإشراك رأي أصحاب الاختصاص في علم النفس والاجتماع بهذا الموضوع .