الجرائم التي لا تعد جرائم إلا بالشكوى: هي أحد المفاهيم القانونية المهمة التي توازن بين حماية الحقوق الشخصية وتحقيق العدالة الجنائية، وهي الجرائم التي تتوقف ملاحقتها على إرادة المجني عليه، حيث لا تباشر الجهات المختصة إجراءاتها إلا بعد تقديم الشكوى، ويهدف هذا النظام إلى مراعاة خصوصية بعض الأفعال التي تمس المصالح الشخصية للأفراد، مع الحفاظ على حق اللجوء إلى القضاء عند الضرورة.
يرتبط هذا النوع من الجرائم عادة بالانتهاكات ذات الطابع الشخصي التي لا تشكل تهديداً خطيراً للمجتمع ككل، بقدر ما تؤثر بشكل مباشر على حقوق الأفراد، ومن الأمثلة الشائعة على هذه الجرائم “التشهير وخيانة الأمانة والزنا وبعض أشكال السرقة البسيطة بين الأقارب“، وفي هذه الحالات يعطي القانون المجني عليه الحق في تقرير ما إذا كان سيرفع دعوى قضائية أم لا، نظراً لحساسية العلاقة بين الطرفين وأهمية إعطاء فرصة للمصالحة.
ويشمل التشهير أي اعتداء لفظي على شرف الشخص أو مكانته الاجتماعية؛ من خلال اتهامات كاذبة، في العديد من الأنظمة القانونية، يعتبر التشهير جريمة لا يمكن ملاحقتها إلا إذا تقدم الضحية بشكوى، ويعطي هذا النظام الضحية الفرصة لحل النزاع بشكل خاص، خاصة عندما تكون التهم مبنية على سوء تفاهم أو علاقة شخصية متوترة.
خيانة الأمانة هي جريمة ترتكب عندما يسيء شخص ما استخدام الأموال أو الممتلكات، التي تم تكليفه بها، وغالباً ما ينطوي هذا النوع من الجرائم على علاقات شخصية أو تجارية، ويمنح القانون الضحية خيار تقديم شكوى أو عدم تقديمها، مع مراعاة خصوصية هذه المعاملات.
الزنا جريمة تعتبر في بعض البلدان جريمة لا يمكن ملاحقة المتهم بها؛ إلا إذا تقدم الزوج أو الزوجة بشكوى ضد الطرف الآخر،وتؤثر هذه الجريمة بشكل عميق على الحياة الزوجية، لذلك يختار بعض الضحايا عدم الذهاب إلى المحكمة لتجنب إحراج أو تدمير العلاقة الزوجية.
أما بالنسبة لبعض أشكال السرقة البسيطة بين الأقارب، مثل سرقة الممتلكات الشخصية بين أفراد الأسرة أو الأصدقاء، فقد يتم حل النزاع ودياً دون الحاجة إلى ملاحقة قانونية، وفي هذه الحالات قد يفضل الضحية حل الأمر خارج الإطار القضائي حفاظاً على العلاقات الأسرية أو الشخصية.
إن هذه الجرائم تحقق توازناً دقيقاً بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع؛ فمن ناحية تمنع الدولة التدخل في الأمور التي قد يفضل الأطراف حلها ودياً دون اللجوء إلى القضاء؛ ومن ناحية أخرى تضمن وجود إطار قانوني يمكن اللجوء إليه في حال فشل محاولات التسوية، وهذا التوازن يخفف العبء على النظام القضائي، حيث يقلل من عدد القضايا المعلقة أمام المحاكم، مع الحفاظ على إمكانية الحصول على العدالة للطرف المتضرر عند الضرورة.
ورغم الفوائد التي يقدمها هذا النظام، فإنه يثير بعض التحديات القانونية والعملية، ومن أبرز هذه التحديات إمكانية استغلال بعض الجناة لشرط الشكوى للإفلات من العقاب، وخاصة في الحالات التي يتم فيها ممارسة الضغوط أو التهديد على الضحية؛ لثنيه عن تقديم الشكوى، كما قد يساهم هذا النظام في تأخير العدالة، حيث قد يتردد الضحية في اتخاذ القرار المناسب، مما يضعف الأدلة بمرور الوقت.
ويحدد القانون عادة مهلة زمنية لتقديم الشكوى، تعرف بالتقادم، وتختلف هذه المهلة بحسب طبيعة الجريمة، وهذا التقادم ضروري لضمان استقرار الأوضاع القانونية ومنع استغلال الشكوى بعد فترات طويلة لأغراض شخصية، وفي الوقت نفسه، تمنح السلطات القضائية الحق في إغلاق القضية إذا قرر الضحية إسقاط شكواه، وهو ما يعزز مبدأ الرضا الشخصي في هذه الجرائم.
ولتعزيز فعالية هذا النظام، يجب أن يكون مصحوباً بإجراءات تضمن حماية الضحية من أي ضغوط تؤثر على قراره، كما يتطلب توعية الأفراد بحقوقهم القانونية وأهمية اللجوء إلى القضاء عندما يتعرضون لاعتداء يؤثر على مصالحهم الشخصية،
وبعد كل ما تقدم، تجسد الجرائم المبنية على الشكاوى مبدأ التوازن بين حماية الحقوق الشخصية وتحقيق العدالة، حيث تمنح الأفراد حرية تقرير مدى الحاجة إلى بدء الإجراءات الجنائية، ورغم التحديات التي يثيرها هذا النظام، إلا أنه أداة قانونية مهمة تساهم في الحفاظ على خصوصية العلاقات الشخصية مع توفير الضمانات القانونية للمتضررين.