يذهل العالم مما تراه عينه عبر شاشات التلفاز من قساوة واجرام الجنود اليهود وهم يقتلون ابناء فلسطين، عدو لم يردعه رادع من استخدام كل انواع التعذيب وكل انواع الاسلحة ضد بشر عزل، اراضيهم محتلة ومقدساتهم منتهكة.
ويتساءل كثيرون: ما هؤلاء اليهود؟ ما دينهم؟ ما اخلاقهم؟ اذ ان الذي يفعلونه في كل يوم لا يمكن ان يصدر عن بشر يملك ذرة من معايير الايمان بقيم الانسانية العليا.
اوصل ذلك التساؤل البعض ان يبحث في المعتقد اليهودي. اليس التوراة كتاباً سماوياً؟ الا يحتوي على اسس اخلاقية رادعة لعمليات الاجرام التي يرتكبها اليهود؟ فكان الجواب: ان نبحث في التوراة ونستخرج منها نصوصها وفعاليتها الملزمة لكل يهودي ان يطبقها حرفيا في كل زمان ومكان.
كثيرون يتمنون معرفة ما اذا كان هذا الكتاب الذي يقدسه اليهود يحتوي اموراً لا اخلاقية، وانه يحض على كراهية الغير وقتلهم وابادتهم، وبخاصة شعب فلسطين.
ان ما سعت اليه المؤلفة في كتابها الذي نحن بصدد مراجعته، هو البرهنة على ان العنف اليهودي/ الصهيوني وما يرتكب من جرائم ضد الشعب الفلسطيني، انما هو امتداد وتكرار لما حدث منذ ما قبل قيام الكيان الصهيوني حتى الان بدرجات متفارقة، وان ما يجري الان ليس رد فعل للمواجهة الفلسطينية كما يزعم اليهود/ الصهاينة في ادبياتهم المختلفة الموجهة للراي العام العالمي والغربي منه بصورة خاصة في عملية غسل ادمغة مستمرة انما هو امتداد لفلسفة عرقية تستمد اصولها من العقيدة اليهودية وليس فقط من الفلسفة العنصرية التي سادت الفكر الاوروبي ابان قرن الفتوحات الامبريالية، القرن التاسع عشر.
بداية، نوهت المؤلفة، ان العهد القديم او التوراة المعتمدة في كتابها، هي التي الفها الحاخامات ابان الالف الاولى ق. م، ولا علاقة لها بالكتاب المنزل. وكذلك نوهت الى ان الشخصيات التي ورد ذكرها في الكتاب كما تصورتها عقلية اولئك الحاخامات الذين وضعوا التوراة بعد مرور قرون عدة تقارب الستمائة عام او اكثر على الاحداث التي وقعت، او تلك التي تصوروا انها قد وقعت، لا علاقة لها بالشخصيات التاريخية المعروفة سواء من ناحية قناعاتها الايمانية وما كانت تلتزم به من قيم نبيلة بعيدة كلياً عما يرد تصويره في التوراة، ام من ناحية المسلكيات اللااخلاقية المتخيلة والبعيدة كليا عما تلتزم به تلك الشخصيات من مثل ومبادئ انسانية، وهو ما حد باولئك الحاخامات الى ان ينسبوا بني اسرائيل لتلك الشخصيات.
ان اولئك الحاخامات كانوا يجهلون الكثير عن الوقائع والاحداث التي دونوها والتي ربما وصلت اليهم بعد مئاات السنين من وقوعها بشكل اجزاء متشظية من حكايات وقصص متناثرة، فجموعها واضافوا ما كان ناقصا طبقا لتصوراتهم ليصنعوا منها حكايات متكاملة. كما انهم كانوا يجهلون الكثير من الحقائق الجغرافية وتاريخية الاحداث التي خيل لهم انهم قد ارخو لها. فالزمن التوراتي يختزل احيانا حتى يبلغ درجة الصفر. وقد يتمدد احيانا اخرى ليغطي بضع مئات من السنين.
ان ما يمكن تأكيده الان- تشير المؤلفة- وفق ما اكدته التنقيبات الاثارية الحديثة، ان الحاخامات كتبة العهد القديم قد كتبوا التوراة بالشكل الذي يرضي رغباتهم المرضية وامانيهم المعطلة ليؤسسوا لايديولوجية دينية- عرقية- سياسية تستهدف تحقيق مطامعهم الاقليمية، والتأسيس لاهوتياً لما كانوا يظنون انه الاساس الشرعي للاستيلاء على ارض الاخرين، مستمدين ذلك من نصوص اسطورية كان ينظر اليها في تلك العصور الغابرة على انها حقائق، حقوق اقربها الالهة لعابديها.
ان اهتمام المؤلفة بهذه التوراة واعتمادها عليها، ياتي من حقيقة انها تعد من جانب اليهود، برغم تجاوزاتها اللااخلاقية واللاانسانية ، كتابا مقدسا ينبغي ان يطاع ويطبق. حتى الصهاينة الذين اعلنوا منذ البداية انهم علمانيون، يلتزمون ببعض ما يرد فيها التزاماً كليا نظرا الى انه يشكل الاساس لفلسفتهم العرقية واطماعهم الاقليمية التي لا تقوم لها قائمة، ان هم تخلوا عن التوراة كليا، بالرغم من حقيقة انه ليس هناك من احد يمكن ان لا يصدق ان ما يزعمون هم او من تبنى الدعوة لتوطين اليهود في فلسطين، من الساسة الغربيين، لا يزيد عن كونه مجرد اساطير افرزها العقل الميثولوجي.
اننا سنكون على خطأ كبير- تؤكد المؤلفة- لو تصورنا ان العنصرية الصهيونية كانت فقط وليدة المدرسة العنصرية التي اجتاحت ساحة الفكر في اوربا الغربية كخلفية اساسية للنزعة الاستعمارية الامبريالية التي انتشرت في هذا الجزء من القارة بهدف الاستيلاء على اراضي وثروات شعوب اسيا وافريقيا. وسنكون مخطئين للمرة الثانية لو تصورنا ان الرواد الاوائل من المفكرين والفلاسفة الصهاينة الذين تلقى معظمهم تعليمه في الجامعات الالمانية كانوا قد تأثروا بطروحات الفلاسفة الالمان او العنصريين الفرنسيين حسب. ان المدرسة العنصرية الاوربية كان لها اثر لا يستهان به في التوجه الصهيوني العنصري الذي انعكس في الطروحات الصهيونية بوضوح كلي. كذلك ان عدداً من العنصريين الاوربيين وحتى من الساسة والزعماء في اوروبا الغربية الذين كان يهمهم اقامة كيان يهودي في فلسطين حتى قبل ان يفكر الصهاينة انفسهم بذلك، قد غذوا الرواد الصهاينة بنسغ افكارهم العرقية. وقد لقيت تلك المساعي تربه صالحة لدى الصهاينة من ان اليهود كانوا جنساً يختلف عن كل الاخرين ولا يمكن ان يجمعهم جامع مع غيرهم من شعوب الارض، بسبب من حقيقة ان الصهاينة انفسهم واليهود عموماً كانوا مهيئين دينياً وذهنيا ونفسياً لتقديم تلك الادعاءات والدعوات العنصرية وتبنيها، ولو شئنا تحديد المنابع والمصادر الاولية للعنصرية الصهيونية، لتعين علينا ان نبحث عن ذلك في العهد القديم والتلمود. الا انه من المهم – تنبه المؤلفة- ان نلاحظ ان ذلك لا يعني وجود تواصل ايماني بين قادة الفكر الصهيوني واليهودي كعقيدة دينية. فمعظمهم هؤلاء لا يلتزم بالعقيدة الدينية كموقف ايماني وانما انطلاقاً من موقف وظيفي انتقائي من التوراة نظراً الى انها تقدم لهم اساس دعواهم للاستيلاء على ارض فلسطين، وليس مهماً ان ينهض ذلك الاساس على تصورات اسطورية ورؤى غيبية.
يدعو الفكر اليهودي العنصري الى ابادة الاخرين وتدمير وحرق ممتلكاتهم ومنشآتهم ومزارعهم وابعاد من تبقى منهم خارج الحدود لاحلال اليهود محلهم: ( فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحرمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف. تجمع كل امتعتها الى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل امتعتها كاملة للرب الهك فتكون تلاً الى الابد لا تبنى بعده).
اما التوصية الاخرى التي يوصي رب الجنود شعبة المختار بها، فتقول: (وان لم تطردوا سكان الارض من امامكم يكون الذين تستبقون منهم اشواكاً في اعينكم ومناخس في جوانبكم ويضايقونكم على الارض التي انتم ساكنون فيها).
والفكر الصهيوني لا يكتفي بكل هذه الوحشية الفاشية- تتابع المؤلفة- اذ انه فضلاً عن ما يوصيه الرب به يعمد الى تدمير كل الشواهد الحضارية والثقافية والتاريخية والآثارية التي ابدعها الآخرون في حاضرهم وماضيهم ليكون بمقدوره من ثم الادعاء بدونية الاخرين وينفي وجودهم ليسوغ بالتالي استيلاء الصهاينة على الارض. والشعار الذي رفعه الصهاينة (ارض بلا شعب لشعب بلا وطن) يجسد باجلى صوره هذا الموقف.
هذه العدوانية الشرسة المتجذرة –تقول المؤلفة – قرأنا الكثير عنها في العهد القديم الذي يضج بالممارسات والدعوات الهمجية العنصرية. وبالرغم من حقيقة ان الرواية الثوراتية عن تلك الممارسات انما هي من صنع خيال مرضي واخيلة متورمة وافراز عقد نفسية عميقة الجذور، حيث ان الاكتشافات الآثارية الحديثة التي اعلنت نتائجها ابان العقدين الاخرين من القرن العشرين جاءت لتلغي ما ورد في التوراة عن الفتوحات العسكرية الاسرائيلية، الا ان ذلك لا يقلل من مغزى واهمية تلك الروايات التوراتية التي عكف على تأليفها وكتابتها عشرات الربانيين جيلاً بعد جيل طيلة قرون بكاملها. ان تلك الروايات لم تكتب تعبيراً عن هواية ملحمة مثلاً او رغبة في املاء فراغ ممل او بغير ما هدف، خاصة اذا ما تذكرنا ان تلك الروايات شرع بكتابتها بعدما يزيد على ستة قرون من وقوع الاحداث المفترضة التي تناولتها.
والمؤلفة تؤكد مصداقية ذلك بقولها: انه اذا ما علمنا ان تلك الروايات تفتقر اساساً الى أي سند تاريخي يعتمد عليه، يوثق حياة ونشاطات وتحركات ما دعي في العهد القديم باسباط اسرائيل الاثني عشر (وشعب اسرائيل) الذي تنفي الدراسات التاريخية والتنقيبات الاركيولوجية الحديثة أي وجود له في الزمان والاماكن التي كانت مسرحاً لتلك الروايات التوراتية. ان ما يبتغي من وراء تسجيل تلك الروايات الخيالية هو بالضبط ما يمكن ان تمارسه من فعل مستديم في صياغة التكوين النفسي لليهود.
ولا يقتصر هذا الفعل على الحقبة الزمنية التي كتبت التوراة خلالها كرد فعل لما يسمى (السبي البابلي). وانما يراد له ان يمتد عبر العصور الى الازمنة اللاحقة بهدف زرع روح الاقتحام العدوانية والتحدي والعنف والكراهية والقسوة في التعامل مع الاخرين وان لا تأخذهم بهم رأفة او شفقة، والى غير ذلك من الممارسات الوحشية من قتل وابادة وتدمير وحرق.
وليس ثمة ما هو اكثر صدقا في هذا الشان من تلك الوصايا التي حرص كتبة العهد القديم التي تنص على ضرورة نقل هذا التراث البربري من جيل الى جيل: (فالآن باسرائيل اسمع الفرائض والاحكام التي انا اعلمكم لتعلموها لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الارض التي الرب اله ابائكم يعطيكم. لا تزيدوا على الكلام الذي انا اوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب الهكم التي انا اوصيكم بها.. انما احترز واحفظ نفسك جدا لئلا تنسى الامور التي ابصرت عيناك ولئلا تزول من قلبك كل ايام حياتك وعلمها اولادك واولاد اولادك).
ويؤكد كتبة التوراة حرصهم على نقل هذا التراث الموغل في همجيته جيلا بعد جيل، بتكرار هذه الوصية في غير موضع في العهد القديم: (لتكن هذه الكلمات التي انا اوصيك بها اليوم على قلبك. وقصها على اولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم واربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك واكتبها على قوائم ابواب بيتك وعلى ابوابك). وهذا يعني ان على الفرد من بني اسرائيل ان لا يحفظ تلك الوصايا حسب بل ان يعيشها اربعاً وعشرين ساعة يومياً… ونظرا لاهمية ذلك فان هذه التوصية تتكرر مرة اخرى في موضع اخر من التوراة: (فضعوا كلماتي هذه على قلوبكم ونفوسكم واربطوها علامة على ايديكم ولتكن عصائب بين عيونكم، وعلموها اولادكم متكلمين بها حين تجلسون في بيوتكم وحين تمشون في الطريق وحين تنامون وحين تقومون. واكتبها على قوائم ابواب بيتك وعلى ابوابك، لكي تكثر ايامك وايام اولادك على الارض التي اقسم الرب لابائك ان يعطيهم اياها كأيام السماء على الارض).
ان عملية زرع وتنمية هذه النفسية العدوانية الانتقائية الشرسة في اعماق الفرد الاسرائيلي تجري منذ نعومة اظفاره من خلال التربية الدينية. وهي لا تقتصر على الشعوب اليهودية المقيمة غي الكيان الصهيوني، وانما تشمل اليهود المقيمين في ما يسمى الداياسبورا او الشتات.
ان ما جاء به التوراة من حث على تلك الممارسات الهمجية يكشف من ناحية اولى عن نزعة دموية عدوانية متأصلة وعن فكر رغبي مفتون بتدمير وابادة الاخرين ويكشف من ناحية اخرى عن مسعى للبحث عن سبيل او منفذ للتنفيس عن احساس بالعجز والدونية وامنيات معطلة في حب العظمة والقوة والتسلط.
يكفي – تذكر المؤلفة- ان ندرك ان التوراة قد زرعت في اعماق الذات اليهودية، طيلة قرون بكاملها، هذه النزعة الدموية الظلامية والحقد على كل الاخرين وحب سفك الدماء والتدمير والابادة، والحق في انتزاع ثروات وممتلكات الاغيار بوصف تلك الثروات بل ثروات العالم كلها تعود لهم ظالما كانوا جزءا من الرب التوراتي الذي يمتلك كل ما في هذا الكون من ثروات، كما ينص على ذلك (التلمود البابلي الوطن الذي يحمله اليهود معهم) اينما حلوا واينما ارتحلوا، مما بات من الصعب انتزاع هذه النزعة الدموية من اعماقهم.
ان المؤلفة في كتابها هذا سعت الى البرهنة على ان:
1- العنف الصهيوني وما يرتكب من جرائم ضد هذا الشعب الفلسطيني انما هو امتداد وتكرار لما حدث ويحدث منذ ما قبل قيام الكيان الصهيوني حتى الآن، بدرجات متفاوتة، وان ما يجري الان ليس رد فعل الانتفاضة كما يزعم الصهاينة في ادبياتهم المختلفة الموجهة للرأي العام العالمي، والغربي بصورة خاصة، في عملية غسل ادمغة مستمرة.
2- انه –أي العنف الصهيوني- امتداد لفلسفة عرقية تستمد اصولها من العقيدة اليهودية، وليس فقط من الفلسفة العنصرية التي سادت الفكر الاوربي ابان قرن الفتوحات الامبريالية، القرن التاسع عشر.
3- وانه ثابت من ثوابت الاستراتيجية الصهيونية التي تمتد جذورها في اعماق الفكر التوراتي –التلموذي- في ما يخص ايجاد دولة يهودية نظيفة، كما يعبرون في ادبياتهم، أي خالية من غير اليهود خاصة الفلسطينيين بشتى الوسائل والاساليب: التصفية الجسدية او الطرد خارج الحدود، وعمليات القتل وتهديم البيوت والمؤسسات والمعامل والمزارع الفلسطينية…. ان هذه الاعمال ما هي الا جزء لا يتجزأ من الثوابت الجوهرية الصهيونية مستمدة من التراث اليهودي والعقيدة اليهودية.
* الكتاب:
بديعة امين- الجذور التوراتية للعنصرية الصهيونية، ط1، دار الشؤؤون الثقافية، بغداد، 2002.