23 ديسمبر، 2024 12:21 ص

الجذور التأريخية للتظاهر في العراق واشكالية الردود الحكومية

الجذور التأريخية للتظاهر في العراق واشكالية الردود الحكومية

منذ قيام الدولة العراقية عام 1921 ، اثر افول نجم الدولة العثمانية ، والشعب العراقي بقيادة قواه الوطنية الفاعلة ، كان ولا يزال ينادي بالخبز للفقراء والعمل للعاطلين ، والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة، والمتتبع لمجريات الحركة الوطنية في العراق ، يجدها حركة تمثل جدلا قائما بين هذه القوى والحكومات المتعاقبة ، تارة يأخذ الحوار السلمي بمحاولة اقناع هذه الحكومات باهمية الالتفات الى المطالب المشروعة البسيطة التحقيق ، وتارة يأخذ هذا الجدل شكل التظاهر والتمرد على السلطات المتعالية عن امال وطموحات الشعوب في العيش الكريم المقبول انسانيا. والغريب ان جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم هذا البلد تسلك ذات السلوك وتتعكز على ذات التبريرات ، سلوك العنف ، والتمسك بمنطق وجود مندسين او مؤامرة يحيكها الاعداء ، والاغرب من كل هذا ان الحكام في العراق (باستثناء الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم) يعتقدون انهم ملهمون وانهم لا اخطاء لديهم وهم ليسوا بفاسدين ، وان الطرف المقابل هو من يتحين الفرص للايقاع بهم اي بالحكام ، ولذي يهز انتباه المراقب طيلة هذه العهود ان المسؤول الحكومي لا يجد في توقف الحياة عيبا عليه ولا بتأخر الاوضاع ثلمة في حكمه وعجزه، انما يظل يرى ما حوله هو احسن الممكنات. رغم توفر كل هذه الامكانيات المالية ، ورغم ان العراق متعددا في مصادر الثروة.
ان العراق ومنذ ولادة دولته كان ولا زال حلبة صراع بين الشعب وحكوماته ، وكل حاكم جديد يوجه اللوم والنقد الشديد لسلفه وما ان يستقر في السلطة ، حتى يبدأ هو الاخر باجترار الاخطاء وممارسة الظلم والفساد ، بتعبير ادق، يكون ما كان حراما حلالا لهذا الحاكم.، ويبدأ يعيد نفس العبارات تجاه غضب المواطن ، ولو استعرض اي منا حركة الشعب الدؤوبة في تغيير الاوضاع لوجد ان هذا الشعب بدأ التظاهر عام 1936 في عدد من احياء بغداد وخاصة في شارع الرشبد مطالبا بالخبز للفقراء والارض لللفلاحين .وفي اللحظة التي خطب فيها الجنرال بكر صدقي عام 1936ناكرا وجود الطبقة العاملة في العراق او وجود الرأسمالية المستغلة ، وان هذا الجنرال في انقلابه على السلطة قام بقتل وزير الدفاع الفريق جعفر العسكري، وقد كان رد الشعب على انكاره هذا ان قام عمال السكك عام 1937 بالاضراب العام والتحق بهم كل من عمال الموانئ وشركات النفط العاملة في العراق ، وعمال السكاير والشخاط .، مطالبين بتحسين الاجور وظروف العمل ، وخاصة وان العمال يقارنون اوضاعهم بما الت اليه اوضاع العمال في بريطانيا ما دامت الشركات النفطية العاملة في العراق هي شركات بريطانية ،
لقد كان لتدخل بريطانيا السافر في شؤون العراق ان قامت المظاهرات عام 1948 ،منددة بمعاهدة بورت سموث (اوجبر بيفن) ، وقد كان لليسار العراقي الدور الاهم في تجميع نشاط الاحزاب السرية والعلنية في التظاهر السلمي ازاء الاوضاع المزرية التي يمر بها المواطن العراقي وخاصة في الريف ، وشبه المدن ، وقد كان لافتتاح الكليات والمعاهد العالية دورا رائدا في قيادة المظاهرات وتوجيه شعاراتها ، وتبني مطالب الكادحين ، وما ان حل عام 1952 حتى انتشرت المظاهرات من جديد مطالبة بالانتخابات ومعالجة المشاكل الاقتصادية خاصة وان الانتاج النفطي كان بازدياد غير ان الشركات البريطانية كانت تستحوذ على القسط الاكبر من المردود المالي لمبيعات هذه المادة الحيوية ، وفي عام 1956 ، اندلعت المظاهرات العنيفة في شوارع بغداد احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر ، وقد تعرضت المظاهرات للسفير البريطاني اثناء مروره في احد شوارع بغداد . وقد كانت هذه المظاهرات تنادي بتغيير النظام الموالي لبريطانيا ، ولقد كانت هذه المظاهرات رغم عناوينها المعلنة الا انها كانت في الباطن معادية لكل الوزارات المشكلة في العهد الملكي ، وكانت جميع الحكومات المتعاقبة حتى قيام ثورة 14 تموز ، تعادي الحزب الشيوعي العراقي وتعتبره المحرك والواجهة لكل تلك المظاهرات والسبب في ذلك مرده الى ان هذا الحزب كان ولا زال يشكل المتحسس الحقيقي لمطامح وطموحات الفقراء والمعوزين ، وبعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز والمكاسب التي تحققت في عهدها للمواطن البسيط نجد ان هذه الثورة تعرضت لعدة مؤامرات تقف وراءها احزاب منغلقة او بعض شيوخ العشائر التي تضررت مصااحها جراء تطبيق قانون الاصلاح الزراعي ، حيث تم تفكيك الملكية الاقطاعية لصالح الفلاح، او الرأسمالية المستغلة ، وبعد ردة شباط وقيام النظام العارفي اثر انقلاب تشرين بقيادة عبد السلام عارف ، وفي مرحلة حكم اخيه عبد الرحمن عارف خرجت مظاهرات تطالب باحلال النظام الديمقراطي واجراء الانتخابات العامة ، وقد كان الرئيس عبد الرحمن والشهادة للتأريخ كان يطمح بالتحول السياسي نحو الديمقراطية ، غير ان حزب البعث بزعامة البكر وصدام حسين ونتيجة لاحالة عقود نفطية من قبل الرئيس عبد الرحمن الى شركة ايراب الفرنسية وقيامه بالانفتاح التجاري على فرنسا، ، ان تم تحريك الوضع من قبل شركة نفط العراق I.P.C. ، حيث تم ترتيب انقلاب 17 تموز عام 1968. ، ليدخل العراق من جديد خانة الصراع بين الشعب والسلطات الحاكمة ، حيث بدأ هذا الصراع باضراب عمال الشركة العامة للزيوت النباتية ، والقمع الذي لاقاه العمال على ايدي السلطة الغاشمة انذاك ، غير ان الصراع الخفي مع سلطات البعث استمر باشكال واساليب متعددة ، بدأمنذ حركة الشهيد حسن سريع على حكم البعث الاول وانتهى برفع السلاح بوجه السلطات الحاكمة في جنوب العراق او فصائل الانصار في شماله ابان حكم البعث الثاني ،
ان المواطن رغم تشككه بالتغيير الذي حصل بعد 2003، ، الا انه كان يأمل بعد كل هذه الاحداث التي مرت بالعراق ، ان الحكام الجدد الذين كانوا يشكلون المعارضة ، سوف تكون لهم وقفة تأمل مخالفة للاوضاع السابقة وانهم كانوا من المحرومين والمظلومين ،(حسب ادعائهم) انهم اي الحكام الجدد سوف ينتقلون بالمجتمع نقلة نوعية ، نقلة يظهر من خلالها عراق جديد يسير بمستوى الحرية السياسية المعلنة على الملأ ، وان المواطن اصبح هم الحكام وهدفهم ، غير ان ما حصل كان عكس التوقعات لا بل زاد الحكام الجدد العيار في تشكيل المخالفات ، واصبحت تصرفاتهم وكأنها قانون جديد على الجميع الالتزام به وتنفيذ مأربه ، وجاءت تصرفاتهم غريبة وقاسية على النظام العام للدولة ومخالفة لابسط قواعد الحكم المستنير ، كما وانها بافعالها شكلت سوابق في العبث بقوانين الدولة او التجاوز على المال العام ، مما وضع اسس ثابتة للعبث والتجاوز على هذا المال وشجع هذا المنحى الصغير والكبير على التجاوز والسرقة وباساليب حتى تكاد تكون مفضوحة وفاضحة ، الامر الذي ادى بمرور الزمن الى تأكل رأسمال الدولة واختفاء قدرتها على تنفيذ المشاريع او حتى القيام بابسط وظائف الدولة ازاء تطور الزمن او زيادة السكان ، كل هذه العوامل اضافة الى عوامل جهل المسؤول بالاقتصاد والتنمية ، ان تراكمت المشاكل الاقتصادية وزاد الفقر وعمت البطالة ، مما دفع بالناس للعودة ثانية الى اعلان حالة التمرد والاحتجاج، وبدأت المظاهرات تطفو على السطح اعتبارا من عام 2011، وجاءت متزامنة مع الربيع العربي ، غير ان الحكام وقادة الكتل لم يكونوا قد استوعبوا بعد هموم الشارع وتناسوا الفقر وانغمسوا بملذات السلطة واضواء الاعلام ، وركبوا موجة الغنى الفاحش وترف السياسة ، ولم يكونوا يعلموا ان النار بدأت تحت الهشيم ، وجاءت مظاهرات عام 2014 ، ولم يعيروها اهمية وعبر السنين تزداد البطالة ويكثر الفقر ، وقد وصلت البطالة الى 35% وان نسبة الفقر وصلت 36% وان نسبة البطالة في الريف ناهزت ال 40% بعد شح المياه ، وفي تموز من كل عام يتظاهر الناس والقادة من السياسيين لا يعبأون بها حتى تجلت اليوم على شكل ثورة هادفة لاعلان العصيان على كل حكام العراق واحزابه الحاكمة ، التي ما لبثت ان تلقت اللطمة في الانتخابات الاخيرة ، والتي تمثلت بقلة المتوجهين الى صناديق الاقتراع وقلة المقاعد التي حصلت عليها هذه الكتل الحاكمة ،
ان المظاهرات التي ما فتئت لا تتوقف منذ سبعة سنين نراها البوم غير تلك المظاهرات في السابق على حكام بغداد التوقف عندها ومعالجة الخلل والبدء منذ اللحظة بأيقاف تيار الفساد وابعاد المفسدين وتشكيل حكومة وطنية من غير الاحزاب الحاكمة والعمل قدر الامكان الى امتصاص النقمة دون اللجوء الى القوة ، والكف قدر الامكان عن العودة الى اساليب الحكومات السابقة بالتعامل السيئ مع شعب مظلوم وشاب عاطل يبحث عن العمل.
ان المندسين يجدون لهم دورا عندما تكف الحكومات عن اداء واجباتها ازاء اي مجتمع ، اي ان الحكومات هي من يهيئ المناخ للمندس او المتصييد بالماء العكر ، ولقد اصبح منذ امد بعيد ظهور المندسين متزامنا مع دور الحكومات الفاشلة ، وان الانقسام السياسي الحاصل اليوم في العراق والغير المبوب على اي خانة سياسية او قاعدة معروفة يمكن ان يكون وراء هذا الاندساس خاصة وان نتائج الانتخابات غير واضحة المعالم لغاية اليوم ، وان مسألة التحذير من هذا الدس لا يكفي ، بل يجب اتخاذ خطوات عملية ملموسة تهدئ من فورة الشارع وتقطع السبيل على المندسين وان الاجهزة الامنية مطالبة بوضع حدود حقيقية بين المندس والمتظاهر العفوي لان الخلط بينهما سيدخل البلد في نفق مظلم جديد…