-1-
شاعت للأسف في الآونة الأخيرة ظاهرة الاعتداء على الاطباء الذين يعالجون المرضى فيموتون ، وكأنَّ الطبيب هو سبب موتهم ..!!
إنّ الأمانة المهنية والشرعية تقتضي الطبيب أنْ يبذل جهده في تشخيص الداء واعطاء الدواء المناسب .
وهذا ما جرت عليه العادة ، الاّ في حالات شاذة نادرة لا تصلح ان تكون مقياساً ..!!
والموت والحياة ليسا بيد الطبيب المعالِج، وانما هما بيد الله تعالى الذي حدّد لكل انسان أجلاً …
انّ محاسبة الطبيب تتم قضائيا – لا عشائريا – اذا ثبت أنه تعمّد الاضرار بالمريض وقام بما يؤدي الى مفارقته الحياة .
-2-
ومن ألوان الظلم الاجتماعي أنْ يقال :
إنَّ المريض الفلاني راجع الطبيب الفلاني فأماته .
ولو أراد الاطباء الاحتراز عن مثل هذه الكلمات المغموسة بالجهل واللؤم لوجب عليهم ترك مهنتهم والانصراف الى غيرها ..!!
-3-
ونحن لا ننكر ان بعض المرضى لا يكفّون عن ذِكْرِ مَنْ راجعوا من الاطباء بالسوء، في حالة استمرار مرضهم وامتداده دون أنْ تظهر اية سمة من سمات التحسن في حالتهم الصحيّة .
ولكنْ تبقى تلك الانفعالات بعيدة عن اقتراف ايةِ عمليةٍ عدوانيةٍ بحقّ اولئك الاطباء الذين عالجوهم .
-4-
وقد قرأت مؤخرا خبراً مثيراً للغاية ، مفادُهُ انّ هارون الرشيد أمر بضرب عنق الطبيب الذي قال عنه :
انه ميت لا محالة ..!!
ولقد جاء الخبر في كتاب محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ج2 ص 442-443 على النحو التالي :
” لما دخل الرشيد طوس اشتدت علّتُه ، وطبيبه بختيشوع يغدو ويروح عليه ، ويُعطيه الأباطيل ويُمنيه ويقول :
إنَّ علّتك من حدة السفر .
فدعا الفضل يوماً وقال :
أبغني رجلاً عاملاً من التجّار أشاروه في أمرى وأفضي اليه بسرّ ،
فجاءه برجل من اهل طوس ،
فاستنطَقَه فرآه عاقلا ، فقال :
أتحفظُ السر ؟
قال :
نعم
فخلا به وقال :
خذ هذه القارورة فأتِ بها جبريل بن بختيشوع فقُل له :
هذه قارورة أبي ، فَتَأمَلْهُ فان كان له دواءٌ فعرّفني ، وإنْ لم يكن دواء فعرفني ليتجهز ويُصلح أمره .
فذهب اليه بالقارورة ، فلما نظر اليها جبريل أقبل على أبيه وقال :
ما أشبه ماءه بماء ذلك الرجل ،
إنّ هذا ميتٌ لا محالة !
فرجع الرجل وأخبر الرشيد بما قاله فقال :
يا فضل اذهبْ فاضرب عُنَقَه ،
فأخذه الفضل وحبسه ، فقال :
اتركني محبوساً عندك ثلاثة أيام ،
فان عاش فاقْتُلني ،
والاّ فلا تتقلد دمي ،
ففعل ،
فمات الرشيد ليلة الثالث “
أقول :
ان طبيب الرشيد لم يكن يصارحه بحقيقة تشخيصه خشيةً منه ، ومن ردود فْعِلِهِ، التي قد يكون الأمر بضرب عنقه واحداً منها .
ويقيناً انه لم يكن يحجب ما ينفعه من الدواء ، ولكنه ماذا يصنع وحالةُ الرشيد الصحية تنذر بقرب الرحيل عن هذا الكوكب ؟!
لقد حاول أنْ (يعطيه الأباطيل ، ويُمنيّه ويقول :
إنّ علتّك من حدّة السفر ) – كما جاء في متن الخبر- .
ولقد كان الطبيب مصيباً في تشخيصه ، فدّل ذلك على براعتهِ وفطنتِهِ .
ولكنّ الرشيد أراد أنْ يسوقه الى الموت قَبْلَهُ ، انتقاماً منه وحقداً عليه وكأنَّه هو المسؤول عن موتِهِ ..!!
وهكذا تتواصل الحلقات منذ القرن الثاني للهجرة حتى يوم الناس هذا، دون رعاية لما تفرضه أحكام الدين والعقل، فضلاً عن التنكر للقيم الانسانية والحضارية والاخلاقية …