23 ديسمبر، 2024 11:39 ص

 زمن معتم ، غيومه سواد ورعب ، امطاره دم و رصاص وخوف . صار الموت والسجن وبتر الاوصال شيئا مألوفا فيه . التهم كقطع الملابس تفصل حسب مقاسات الانسان  ، المعارض فيه  للحزب الحاكم ، مصيره محتوم ومسكنه الطبيعي السجن او المقابر الجماعية او احد مقرات المخابرات المنتشرة في انحاء الوطن وهذه خدماتها الفندقية راقية جدا ، فنادق من الدرجة الاولى، خمسة نجوم ، قتل وتعذيب وقص اللسان والاذان والاطراف، وقعها مرعب في نفوس  العراقيين لخدماتها الجليلة الخارجة عن المألوف ، الاعدام رميا بالرصاص ، ثرم السجين بمكائن الثرم او اذابة جسده بمادة التيزاب …..!؟…استغرابي لا حدود له لعدم ورود هذه المنجزات الهدامة في كتاب كنس لغرابتها الانسانية ، لدرجة ان القول جاء فيها : ان الجحيم قد سكن الارض واستقر في العراق…. !!

صدفة مرعبة ان يودع احد اقاربي السياسيين في سجن من تلك ، ولحسن حظ قريبي المسكين من ان هذا السجن يمتاز باستضافة راقية ومريحة جدا لقرابتها الحثيثة من الموت الحتمي….! ذهبت وعائلته لزيارته وبعد الاجراءات الثقيلة لدخول ذلك المنتجع قابلناه بشق الانفس وبقينا معه بضع سويعات خلالها تعرفت على يعض ساكنيه من ابناء مدينتي وبدأت اسال كل واحد منهم عن تهمته التي اوصلته الى هذا المكان الرومانسي ,وكأن سؤالي مفتاح يفتح كل ابواب الجحيم الموصدة ، وبدأ السباق: ما احد الا و يتعجل بسرد قصته ليخفف عن احمال صدره الثقيلة ، كانت تلك القصص متشابهة ومعروفة لكونها تتمحور في ساحات جهنم التي نزلت من السماء واستوطنت العراق وتقرر بقاءها….اعتقد الى الابد…..!!

 يتمركز الجحيم بعدم الانتماء للحزب الحاكم او التعرض لهذا الحزب بكلام سلبي او شتم القائد الضرورة او احد ابناءه حينها يرتدي صاحبها اجمل البدل الانيقة من تهم كيدية مفصلة باهتمام واناقة ، الامر الذي جعل الانسان العراقي يتلفت حول نفسه مرارا ويحسب الف حساب حين يمس الحكومة بحديث او نقد بسيط حتى وصل به الامر الخوف من الحائط وذهب الاعتقاد في ذلك الزمن بان للحائط اذان تسمع وعيون ترى …!؟..  اخذ هذا الزمن تقريبا ربع نفوس الشعب العراقي قتلا وسجنا ودفنا في المقابر الجماعية واسرى حرب ومفقودين وشهداء……!؟

 حكاية واحدة من حكايات ذلك الجحيم الارضي فاقت بغرابتها حكايات الجميع واثارت حفيظتي ورغبتي الملحة وفضولي الدبق على مطاردتها و سماعها وانا فاغر فمي…! بطلها شاب ،جميل الطلعة ابيض اللون شعره اسود فاحم مسبسب تتدلى خصلاته على جبهته العريضة ، يرتدي نظارات طبية حادة الشفافية تكاد زرقة عينية تخرج من وراء زجاجها الرقيق ،  رموش عينيه الطويلة تهم بدفع زجاجها نحو الخارج ، يرتدي جلابية نصف كم تكشف ذراعيه البيضاوين الموشحة بشعر ناعم ، سيق الى الخدمة الالزامية بعد الانتهاء مباشرة من دراسته الجامعية في الهندسة المدنية…..!!

 في ليلة سوداء ملبدة بسوء حظه ، زار خياله حلم كباقي الخلق : رأى فيه رئيس الجمهورية وقد اطيح انقلاب شعبي بحكمه وقد اعدم شنقا من قبل الثوار…!؟ هذا الحلم فتح باب الجحيم على مصراعيه حالما قص ، احمد ، حكايته كما حدثت على نزلاء خيمته من زملاءه الجنود وكالمعتاد في اروقة جهنم تنتقل الاخبار اسرع من البرق خصوصا اذا كانت نتائجها كسر الاعناق….!؟ وفي الحال وصلت حكاية الحلم الى جلاوزة النظام واصبح احمد متهما بتهمة التآمر على حياة الرئيس والخيانة العظمى…!  لا يحق لاحد في العراق ان يتجاسر و يعكر مزاج القائد الضرورة او يهدد حياته  حتى ولو في الاحلام وعلى هذا الاساس اعتبر هذا الحلم مخططا حقيقيا لمؤامرة لقلب النظام وتهديد حياة القائد الضرورة…..!؟ ولبس صاحبنا المسكين تلك التهمة المفصلة على مقاسه وسيق الى ذلك السجن…!؟

مضى على زيارتي لذلك المنتجع الرقيق حوالي شهر و صورة هذا الشاب وحكايته الغريبة لا تزال عالقة في مخيلتي وبقيت افكر بمصيره المحتوم واتسقط الاخبار الاتية من ذاك الجحيم…!! واخيرا وردت اخبار نصف مفرحة تعلن اطلاق سراح هؤلاء السجناء وارسالهم الى جبهة القتال ليشاركوا في معركة الفاو الضروس التي تدور رحاها بين الجيش العراقي والجيش الايراني ،كالمستجير من الرمضاء بالنار ، وقد استشهد فيها جميع السجناء بما فيهم قريبي الذي ترك وراءه زوجته الشابة وطفلة في الشهر السابع من العمر…….!!

ومرت السنين العجاف مسرعة ولاح شروق شمس الحرية في الافق وظن الشعب العراقي ان الجحيم ستهجر العراق وستعود الى السماء مرة اخرى ، وكذبت تصوراته واستمرت جهنم في مكانها تطحن فينا بل عززت بحطب جديد من ممارسات جهنمية اكثر قسوة و بوهيمية وهمجية وشيطانية تتناسب مع التقدم الحضاري والديمقراطي….!؟…الذبح والتفجيرات والاحزمة الناسفة وابداعات اخرى لا مجال لذكرها…..!؟

التقيت يوما احد الناجين من ذلك الجحيم والذي قد فر الى خارج العراق بعد الانتفاضة الشعبانية في مطلع التسعينات من القرن المنصرم وسألته عن مصير بعض السجناء وذلك الشاب المسكين الحالم : فقال لقد اخذوه مع مجموعة تدعى بمجموعة  اصحاب التهم الثقيلة ولم يعد، الا في يوم طرق باب منزله احد جلاوزة النظام وسلم اهله جثمانه وطالبهم بثمن الاطلاقات النارية التي اعدم فيها وهذا اجراء وحشي معروف يمارسه سدنة الجحيم واتباع ابليس في ذلك الزمن….!؟