ما برحَ الشارع او الجمهور العراقي منقسماً على نفسه ” لغاية الآن .! ” في تقييمِ كلا ثورة 14 تموز 1958 , والرئيس السابق عبد الكريم قاسم ونهجه المثير للجدل , ثمّ انّ هذا التباين والأنقسام في الرأي بعد مرورِ اكثر من نصف قرنٍ من الزمن , قد لا يبدو غريباً او مستغرباً .! , إذ لايزال الكثير من المواطنين يمتلكون آراءً مختلفة , ويتفاعلون معها بأنفعالٍ , على احداثٍ تأريخيةٍ مضى عليها نحوَ 15 قرنٍ من الزمن .! , وهنا يلعبُ قُصر النظر الفكري والمحايد دورهُ في عملية التقييم … وهنا نلحظ أن كلّما امتدّت سنوات عصرنا الجمهوري هذا , فكلما ازداد الحنين ” عند الكثيرين ” لفترة العهد الملكي السابقة , بالرغمِ من انّ أجيالاً لم تعايش تلك الفترة , ودونما ريبٍ فأنّ ذلك نتاجَ معاناةٍ لما افرزه النظام الجمهوري وامتداداته في العراق تحديدا > ونحن هنا لسنا بصدد الدفاع عن النظام الملكي ولسنا من دعاة الملكية < … إنَّ ” عبد الكريم قاسم بن محمد بن بكر بن عثمان الفضلي الزبيدي 1914 – 1963 ” ومعه قيادة تنظيم الضباط الأحرار ولا سيما الرئيس السابق محمد عبد السلام عارف , هم الذين قدّموا وجلبوا للعراق > ثقافة العنف .!! < ومنذ الساعة الأولى لتنفيذ الثورة , فأولا : لم يمتلك هؤلاء الضباط في ذهنهم خطّةً لإجلاء وتحديد مصير العائلة المالكة بشكلٍ سلمي , ” كما فعلت القيادة المصرية التي كان يتزعّماها اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر في ثورة يوليو تموز 1952 , حينما قاموا بترحيل الملك فاروق على متن اليخت الملكي الى ايطاليا واقاموا له توديعا عسكريا مهيبا اشتمل حتى على اطلاق المدفعية 21 قذيفة كأجراءٍ بروتوكولي , وذلك يدل على مدى الرقي الفكري والأنساني عند الأشقّاء المصريين , وليس المقصود هنا تقليد المصريين بأجرائهم البروتوكولي وإنما الجانب السلمي والأنساني في التعامل مع النظام السابق . ثمّ ثانيا : فقد اتّضح عدم اهتمامهم وعدم اكتراثهم لأية دماءٍ تُسفَك وارواحٍ تُزهَق وهي محسوبة عليهم .!!! , فوفقاً لما غدا معروفاً عن تفاصيل تلك الثورة , ووفقاً لما ذكرهُ ووثّقهُ العقيد الركن ” بامرني : آمر الحرس الملكي في قصر الرحاب , فقد إحتلّ الرئيس السابق ” العقيد الركن عبد السلام عارف ” القصر الملكي وبأسهل من السهولة في فجر الرابع عشر من تموز آنذاك , حيثُ ومنذ لحظات الهجوم الأولى , أبلغَ الوصي عبد الأله لآمر الحرس بعدم الرد على الهجوم وعدم اطلاق اية رصاصة لأنّ المدنيين سيكونون هم الضحايا , والقصر فيه الكثير من نساء العائلة المالكة , واعلن القصر حالة الأستسلام الكامل للمهاجمين , ترك العقيد عارف القصر متوجها الى الأذاعة لأعلان البيان الأول لأنتصار الثورة ” وعبد الكريم قاسم متواجدٌ في جلولاء , وقد تزامن في تلك الأثناء نزول العائلة المالكة الى ساحة القصر رافعين علامة الأستسلام ” ووالدة الملك الشاب تضع القرآن على رأسه
” ليدخل النقيب ” عبد الستار العبوسي ” قادماً من معسكر الوشاش القريب من القصر ” متنزه الزوراء الحالي ” حاملا معه رشّاشته ” الغدّارة سترلنك البريطانية الصنع ” وسدّدها نحو المستسلمين ,
Description: هذه صورة النقيب ( عبد الستار العبوسي ) الذي لعب دور ( الشمر ) في مأساة إبادة العائلة المالكة يوم 14 تموز 1958م
( النقيب عبد الستار العبوسي قاتل العائلة المالكة )
إنّ بيت القصيد من اعادة هذه التفاصيل , هو لماذا لمْ تحاول القوة التي احتلت القصر من منع هذا النقيب ليفرّغ رصاصات رشاشته على الملك والنساء وافراد الأسرة الملكية الآخرين .!؟ , ثمّ لماذا والفَ لماذا قد كافأ عبد الكريم قاسم هذا النقيب القاتل بتعيينه مساعد الملحق العسكري العراقي في موسكو على فعلته الشنعاء هذه .! وهو ايضا ضابط برتبة صغيرة وليس من الضباط الأركان وغير مؤهل لشغل منصب موقع معاون ملحق عسكري وفي موسكو بالذات .! , وتبعاً لذلك : هل من مسوّغٍ يُبرّر او مبرّرٍ يُسوّغ لعبد الكريم قاسم وقيادته في غضّ النظر بل وحتى في ايقاف جرّ الوصي عبد الأله من قصر الرحاب وعلى امتداد الشوارع والى ساحة الشهداء لتعليقه ” عارياً .!!! “لينهال عليه الرعاع بالطعنات وبمختلف احجام السكاكين.!! كيف تغدو البربرية التي لم يمارسها هولاكو في بغداد وغير بغداد .؟ , وذات الصمت ” القاسمي ” ينطبق على غضّ النظر ومنح الضوء الأخضر ” غير المباشر ” عبر السكوت عن اخراج جثة نوري السعيد ” بعد قتله ” من القبر وإشعال النار فيها وسحلها في شوارع بغداد وعلى امتداد شارع الرشيد , لماذا لم يتدخّل عبد الكريم قاسم لأيقاف هذه التراجيديا المخزية ولو بمنتصف الطريق حتى .!؟ , ثمَّ نسأل ونتساءل ونقول : – ما أن استقرّ الوضع لقاسم وثوار تموز , حتى اكتشفوا أنّ السيدين ” ابراهيم هاشم – نائب رئيس وزراء الأتحاد الهاشمي والذي يبلغ من العمر 72 سنة , ومعه سليمان طوقان – – وزير دفاع الاتحاد الهاشمي 65 عاما ” كانا في زيارة رسمية للعراق ويقيمان في فندق بغداد , فأرسلت قيادة الثورة او عبد الكريم قاسم قوة عسكرية لأقتياد الضيفين من الفندق وجلبهم الى وزارة الدفاع , فقام الرعاع بمهاجمتها وقتلهما والتمثيل بجثتيهما , ولم يدفنا اصلا إذ لم يبق شيء من الجثتين , فما الدور الذي اُنيط للقوة او المفرزة العسكرية لأعتقال الضيفين الرسميين .!؟ . . ويبدو إنّ عجلة العنف حين تنطلق فيصعب ايقافها في ظلّ انعدام الحكمة والدراية وانعدام الجانب الأنساني , ولكنْ في ثورة 14 تموز كان هنالك دفعٌ لهذه العجلة لتدور بسرعتها القصوى .! فعن طيبِ خاطر , سمح قاسم للشيوعيين بتشكيل اول ميليشيا مسلحة وقامت ما قامت به من ترويع المواطنين وخصوم قائد الثورة الجديدة , ظانّاً انها تشكل القاعدة الشعبية له , وبهذا الصدد فيُعتبر ما قام به الشيوعيون من مجزرةٍ مخزية في الموصل وكركوك , نقطةٌ سوداء محسوبة على قاسم , رغم انه كبح من جماحهم بعد ذلك , وفي الواقع لم يشهد المجتمع العراقي من قبل مثل بشاعة القتل تلك . . إنّ مَن يتذكر او شاهدَ او قرأَ عن المحكمة العسكرية آنذاك والتي ترأسها ” العقيد فاضل عباس المهداوي ” والتي سُميّت بأسمه داخل المجتمع العراقي وعربيا ودوليا كذلك , هو ابن خالة قاسم , والمشهور بلسانه السليط للغاية ودونما اكتراثٍ لمشاعر الجمهور
والرأي العام ” حيث كانت محكمته تبث جلساتها على الهواء مباشرةً , فسيتذكّر اولئك الذين شاهدوا تلك المحاكمات كم اصبح العراق اقرب الى المهزلة أمام العالم , وليس للمحاكمات الصورية فحسب وإنما للأساليب المبتذلة التي يتعامل بها رئيس المحكمة , ولكنّ ذلك لمْ يُثر استغراب قاسم , وانما نال استحسانه .! والى ذلك , فَلَمْ يكن هنالك سببٌ موضوعيّ ولا من مبرّرٍ محايد للرئيس عبد الكريم قاسم ليقف بالضد من التوجهات الوحدوية والقومية لرئيس الراحل جمال عبد الناصر والتي ابتدأها بأعلان ” الجمهورية العربية المتحدة ” مع سوريا , والتي كان مطلباً وتوجّها جماهيريا عربيا آنذاك , والتي كانت تحظى بتأييدٍ مطلق من القوميين والبعثيين في العراق ولاسيما من بعض الضباط الأحرار في ثورة 14 تموز ذاتها , وهو الموقف الذي كان يتبنّاه عبد السلام عارف , والذي أدّت مضاعفاته ليزجّه قاسم في السجن , والمسوّغ الأقرب لموقف قاسم ذلك هو توجّات انصاره من الشيوعيين بالضد من الموقف العربي السائد , وهو بالتالي ما جعل قاسم يصنع خصوما له وكانت نهايته على ايديهم وقد كان العراق في عزلةٍ عربية جرّاء تلك السياسات الخاطئة …
في فترة العهد الملكي لمْ يكن لعموم المجتمع العراقي ايّ اعتبارٍ ولا ايّ نظرةٍ بأنّ السيد الملاّ مصطفى البرزاني ومجموعته هم الممثلين الفعليين للشعب الكردي , وكان الراحل البرزاني وبعض اعضاء قيادته منفيين الى روسيا , وكان التعايش والأخاء العربي – الكردي على اشدّه , وكان للملك فيصل قصراً في مصيف صلاح الدين والذي هو الآن مقرّ الرئيس مسعود البرزاني .! ولم تكن آنذاك من مشكلةٍ عربيةٍ – كردية او مناطقٍ متنازعٍ عليها .!! , لكن قاسم استدعى الملاّ مصطفى وقيادته من موسكو واعادهم الى العراق , وخصصّ رواتباً شهرية لهم وأسكنَ السيد البرزاني في منزل نوري السعيد .! والأهم انه وضع فقرةً جديدة في الدستور المؤقت تنص على انّ الأكراد والعرب هم شركاء في هذا الوطن , وفي الواقع فأنّ هذه الفقرة لها معنىً مزدوج , إذ كانت الشراكة في العهد الملكي ضمنية وتلقائية , وهي شراكة فعلية كشعب واحد , لكنّ معناها الآخر قد مثّلها على انّ هنالك قوّتين سياسيتين على الأرض هي : الحكومة العراقية والشعب الكردي بأجمعه > حيث لم يكن لدى العرب في العراق اي نظرة تحمل معاني التجزئة والتمييز والأنفصال < , وبسياسة قاسم تلك نشهد الآن افرازات تلك السياسة وانفصال الشمال وضياع كركوك .!! , ولعلّ ادلّ على ما ارتكبه قاسم آنذاك , هو انّ السيد الملا مصطفى سرعانَ ما قادَ تمرّدا مسلحا على قاسم في شمال العراق واستطاع ان يكوّن ويؤسس لقوة مسلحة وشرعت واستمرّت بمقاتلة الجيش العراقي على مدى الحكومات التي تعاقبت على الحكم الجمهوري والى غاية الغزو الأمريكي ومضاعفاته الحالية .
لقد كان الرئيس الراحل عبد الكريم قاسم ذو نزعة عسكرية ولعلّه لم يشعر بها في اعماقه على الرغمِ من كونه من الضباط المعروفين قبل استيلائه على الحكم , فهو لمْ يغيرّ بزّته العسكرية منذ اليوم الأول للثورة ولغاية تنفيذ الأعدام به ” على عكس العديد من القادة العسكريين في العالم الذين تبوؤا السلطة في بلدانهم ” , لكنّ احتفاظه بزيّه العسكري يوحي بتوجهه للتواضع وعدم ميوله لمظاهر الأبّهة , والرجل قد كان بسيطا في حياته الشخصية , كما انه كان حريصا على ترقية رتبته العسكرية وفقا للجداول المعمول بها في الجيش ” حيث كان برتبة عميد في يوم الثورة وانتهى به المطاف برتبةِ فريق ” , وقد ابتكر قاسم منصباً جديدا في الدولة العراقية هو منصب ” الحاكم العسكري العام ” الذي تولاّه – اللواء احمد صالح العبدي – , وقد عيّن قاسم عدداً من القادة العسكريين وزراءً في حكومته , لكنه لمْ يلحظ انّ اجراءاته وتصرفاته هذه تعني حكم العسكر ولا تمنح صورة الدولة المدنية .. وبجانبِ كلّ ما اُشيعَ عن قاسم من هالةٍ عسكريةٍ لامعة .! إلاّ انه اوقعَ نفسه في غلطتين ستراتيجيتين لمْ يكن لضابطٍ من الأركان ان يقع فيهما , ففي يوم 8 شباط 1963 وهو يوم الأنقلاب او الثورة على قاسم , ففي فجر ذلك اليوم حين ابتدأ الهجوم الأولي على وزارة الدفاع ” وهي المقر الدائم له , جاء من منزله مسرعاً ودخل الى الوزارة بنيّةِ ان يصدّ الهجوم ويقود المعركه , لكنه وضع نفسه في موقعٍ دفاعيٍ محاصر يمنعه بالكامل من المناورة والتقدم والحركة والحصول على الأمدادات اللوجستية , كما انه طوال سنواته في وزارة الدفاع التي تطل على نهر دجلة , فلم يجعل له منفذا او اية زوارق تتيح له الإنتقال من مقره عبر النهر في اوقات الضرورة , ويُعتبر ذلك قصورا عسكريا كبيرا , الخطأُ الستراتيجيّ الآخر , أنه وطوال السنوات التي امضاها قاسم في الخدمة في الوحدات العسكرية ومواقعها في
عموم المدن العراقية , وتعرّفه على العديد من الضباط وخصوصا من ذوي التوجهات السياسية , إلاّ انه وطيلة سنوات حكمه التي استمرت نحو اربعة سنينٍ ونصف , إلاّ انه لم يلحظ ولم يدرك ولم يكتشف أنّ غالبية ضباط الوحدات العسكرية المحيطة ببغداد كانوا من المناوئين له ومن خصومه القوميين والبعثيين , وهوالذي كان يُشغل منصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة , وهؤلاء هم مَن قضوا عليه … لاشكَّ أنَّ القضاء على النظام الملكي عبر ثورة تموز قد فتح بوابة الثورات والأنقلابات التي شهدها العراق في ستينيات القرن الماضي , ولاحظنا وشهدنا وما برحنا انّ ثقافة العنف التي انطلقت ضمن سياسة عبد الكريم قاسم قد صار لها افرازاتها وامتداداتها لغاية اليوم , حيث لم يشهد المجتمع العراقي مثل تلك الثقافة إبّانَ العهد الملكي , ولكنّ الإنصاف والأمانة الصحفية يجعلاننا نؤكد ً الأعتراف أنّ ثقافة العنف هذه لمْ يبتكرها قاسم من عنده , بل كانت بذرةً مغروسةً ومدفونة في نفوسِ قطّاعاتٍ نوعيةٍ غير قليلة في المجتمع العراقي , لكنّ الرئيس قاسم رفعَ الغطاءَ عنها واوصل اليها الأوكسجين , ومارسها بنفسه ايضا .. !
*[email protected]