23 ديسمبر، 2024 11:08 ص

الجامعة والمجتمع : من النهضة العلمية إلى الكبوة المعرفية

الجامعة والمجتمع : من النهضة العلمية إلى الكبوة المعرفية

حين يغدو الحديث عن العلاقة القائمة بين الجامعة ؛ كرمز لإنتاج وتطوير الأفكار والنظريات العلمية من جهة ، وبين المجتمع ؛ كإطار اجتماعي / تاريخي يحتضن تلك الأفكار والنظريات ، لإثراء رصيده العقلي ، وترصين أركان هويته الثقافية من جهة أخرى . تثار عدة مسائل جوهرية حول طبيعة العملية التعليمية / التربوية ، وماهية دورها في تنمية الإمكانات البشرية للمجتمع ، وتهيئة مستلزمات نهوضه وتطوره ، فضلا”عن مضاعفة قدراته الذاتية للعطاء العلمي .
ومما لاريب فيه ، فان الجامعة كمؤسسة علمية / بحثية ، تحتل موقعا”متقدما”في ترتيب المؤسسات الثقافية والعلمية المعول عليها إحداث تحولات نوعية في بنية الوعي الاجتماعي ، والارتقاء به إلى مستويات سامقة من النضج والكفاءة . لاسيما وان المعرفة (=الرأسمال الرمزي) باتت تلعب دورا”فائق الأهمية في تحفيز النشاط العلمي وتسريع وتائره على المستويين النظري والتطبيقي ، وخصوصا”في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية وما يرجح أن يتمخض عنهما من آثار بعيدة المدى على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية والسياسية . وفي خضم انفلات قيم ومعتقدات الغرب الرأسمالي المعولم – حيث ذهب شأوا”بعيدا”في عولمة أنماطه الحضارية ومعاييره الأخلاقية – بسبب من قدراته الاقتصادية ودينامياته الاجتماعية وبرغماتيته السياسية ومرونته الفلسفية . مقابل هشاشة البنى التكوينية لمجتمعات البلدان النامية ، وهزال هياكلها الاقتصادية ، وثبات حراكها الاجتماعي ، وتخلف أنماط وعيها ، وتخلع أطرها المعرفية . وهو الأمر الذي سهّل ويسهّل محاولات تمزيق نسيجها السوسيولوجي واختراق مكونها  والانثروبولوجي من جهة ، والعبث ، من جهة أخرى ، بمقدراتها المادية والبشرية ، وتشويه قيمها التراثية ، واستزاف ذخيرتها العلمية ، وتقويض منظوماتها الثقافية ، وتخريب ذاكرتها التاريخية ، ونسف جسور التواصل والحوار بين أجيالها . والجدير بالملاحظة إن محاولات إيقاظ الهويات التحتية من سباتها ، وإفاقة الثقافات الفرعية من مهاجعها ، أضحت تشكل الهاجس المقلق لشعوب بلدان العالم الثالث ، تلك التي ما برحت –  في خضم زوابع التحولات السريعة والتبدلات المفاجئة – تراهن على أصالة مواريثها الحضارية ، وتعتد بعراقة رموزها التاريخية ، علّها تتمكن من مواجهة طوافان ظواهر التعولم القيمي ، والتصدي من ثم لطغيان خطابها الكوزموبوليتاني (= اللاوطني) المنبثق عنها والمصاحب لها . لاسيما وان تلك المحاولات تنشد التسلل عبر محاور متنوعه واتجاهات مختلفة ، للتأثير على مقومات وعي الآخر ، واستدراج نوازعه البدائية ، وتغذية هواجسه المضطربة ، وإحياء مخاوفه الكامنة من جهة ، وقمع تطلعاته الواقعية ، ومسخ أمانيه البريئة وتشويه أحلامه المشروعة من جهة أخرى . وبالرغم من وقوع غالبية الشرائح والفئات الاجتماعية في تلك البلدان – بصرف النظر عن المستوى الدراسي الذي تحوز عليه ، والمؤهل العلمي الذي تتمتع به –  تحت خط الفقر في مستواها الفكري / العلمي ، وتدني رصيدها الثقافي / الإنساني ، وانخفاض وعيها الفردي / الاجتماعي ، بحكم تعرضها المستمر لوابل وانثيال تلك المؤثرات السلبية ، حيال تغيير نظرة مواطنيها لثوابت وجودهم الشخصي وانتماءهم الاجتماعي ومحيطهم الطبيعي ، والتي ما فتأت تستهدف معاقل هويتهم الثقافية لإضعاف ممانعتها ، وأنساق قيمهم الأخلاقية لخلخلة توازنها ، ومنظومة معتقداتهم الدينية لزعزعة تماسكها . كل ذلك بقصد حملهم على تبني خيارات غريبة عن واقعهم الاجتماعي المعاش ، وبعيدة عن سياقهم التاريخي المدرك ، وشاذة عن ثوابتهم الاعتبارية القارة ، ومثيرة لغرائزهم النفسية الهاجعة . نقول على الرغم من ذلك  فان النخب الثقافية (أكاديميين وعموم المثقفين) لم تكن ، بطبيعة الحال ، بمنأى عن التعرض لمساوئ لتلك المؤثرات ، أو بعيدة عن اتقاء سيول مضّارها ، أو سليمة من التلوث بإفرازاتها التخريبية . وخصوصا”حين تعجز هذه الأخيرة عن تخطي حدود معارفها الأكاديمية الضيقة ، وتفشل في تجاوز حصيلتها الانتقائية من المذاهب الفلسفية والتيارات الفكرية ، التي أضحت ساحتها الثقافية جدباء خاوية تفتقر لعناصر التجديد والتطوير ، أو – وهذا أسوأ – غياب وعيها بأهمية دورها الخطير الذي ينبغي أن تقوم به والمهام الجسام المفروض أن تنهض بها ، على صعيد كسر الجمود المعرفي ، وحرث الواقع الفكري ، وإحداث تغيير جذري وشامل في مناهج البحث وطرائق التفكير . وهو ما يترك الواقع الاجتماعي نهبا”للأفكار الهدّامة والسلوكيات المنحرفة ، نتيجة لاستشراء مظاهر الجدب الثقافي والعقم المعرفي . ولما كان وقع هذه التداعيات وتلك الإشكاليات كارثيا”على بنى المجتمعات ، الضعيفة المقاومة والهزيلة التصدي لمثل هكذا معطيات ، على خلفية باعها الطويل في الأزمات الداخلية ( توترات اجتماعية وصراعات سياسية وانهيارات اقتصادية واحتقانات نفسية وتصدعات قيمية وارتكاسات ثقافية) ، والمشاكل الخارجية ( تدخلات إقليمية واستتباعات دولية ) . فلك أن تتصور حجم الأضرار وطبيعة المخاطر المرجح أنها ستهدد مصير المجتمع العراقي مستقبلا”، بالإضافة لما يكابده حاضرا”من إفرازات أسوا مرحلة شهدها تاريخه القديم والحديث والمعاصر ، لاسيما بالنسبة لتجربته الفاشلة ومواقفه الارتدادية ، لجهة تعاطيه مع مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي ، وفي المقدمة منها الجامعات والمعاهد بنوعيها الرسمي والأهلي . فبقدر ما تعاملت بلدان العالم المتقدم مع الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث ، من منطلق كونها مجسات استشعار تستطلع التخوم وتستشرف الآفاق ، لكي تمهد للمجتمع سبل النمو الصحي والمتوازن من جهة ، وتهيئ له من جهة أخرى عوامل التقدم العلمي والنهوض الحضاري . فإنها تحولت في بلدان التتريث الفكري والتوريث السياسي – والعراق في طليعة تلك البلدان بالطبع – إلى حاضنات لتفريخ أجنة التخلف العلمي والجهل المعرفي ، وشكلت من ثم بيئة مناسبة لتناسل شتى ضروب العنف المادي والرمزي ، ليس فقط على صعيد تأزيم العلاقات الاجتماعية والسياسية بين مكونات المجتمع الواحد فحسب ، وإنما على مستوى تأثيم التصورات الذهنية والمخيالية للأفراد والجماعات أيضا”. بعد أن جرى تسييس مناهجها بالإيديولوجيات الخلاصية والطوباوية من جانب ، وتدنيس حرمها بالشعارات الراديكالية والطقوس الأصولية من جانب ثان ، وتأسيس حواضرها بالإيقونات الدينية والكاريزمية من جانب ثالث . بحيث أضحت لا تنتج العلم وتصنع العلماء ، بقدر ما تشيع الخرافات العنصرية وتفبرك أنصاف متعلمين . ولا تربي الأفكار العقلانية والتطلعات الإنسانية ، بقدر ما تعمم الشعوذات الطائفية وتنمي النزعات الظلامية ، ولا تكون مصدرا”للحقائق التاريخية والمعارف الموضوعية ، بقدر ما تغدو بؤرة للتصورات الهوامية والذهنيات التشبيحية . والطامة الكبرى إن الحكومة العراقية ، ومن باب توسيع كوة (الحرية) الفكرية وإطلاق العنان للمبادرات الخاصة ، لم تلزم – إلاّ على مستوى الخطاب المعلن فقط – الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث الرسمية (ناهيك عن البيوتات التجارية التي تسمي نفسها جامعات أهلية) ، بضرورة مراعاة المعايير العلمية الصارمة والمقاييس الفكرية الحديّة ، حين يتعلق الأمر بوضع المناهج الدراسية الملائمة واختيار الكوادر التعليمية الكفوءة ، بما يتناسب وحاجة المجتمع الملحة إلى إحداث نهضة – لا بل قل نهضات – علمية شاملة وعميقة ، لا تستهدف المدماك النظري والمعمار الثقافي القائم فحسب ، وإنما تطال البنى الاجتماعية والأطر الفكرية والأسس التاريخية والقواعد النفسية ، التي لا تزال تتحكم بعقلية الإنسان العراقي – الأمي والمتعلم على حدّ سواء – وتمسك بتلابيب وعيه وتحدد أنماط سلوكه وتحرك خيوط رغباته . ولعل أخطر ما يمكن أن يواجه المجتمع – أي مجتمع – هو أن يترك أمر تعيين مستقبله العلمي وتحديد خياراته المعرفية وتقنين توجهاته القيمية وترسيم تخومه الحضارية بين رهانين أحلاهما مرّ؛ إما تحت رحمة السياسيين والمحازبين الذين لا يجدون غضاضة من ركوب موجة الجهل امتطاء صهوة التخلف ، طالما يرون إن ذلك يحقق أهدافهم المشبوهة ويضمن امتيازاتهم المريبة ، أو – وهذا أسوأ – لعبث المتاجرين بالعلم والمغامرين بالمعرفة ، حيث الربح المادي للتاجر وليس القدح الفكري للمواطن هو المعيار ، وحيث إن المكاسب السريعة للشركة وليس المطالب المعرفية للوطن هي المقياس .
[email protected]