23 ديسمبر، 2024 3:41 ص

الجامعات التقنية : مسيرة وضاءة في الزمن الصعب

الجامعات التقنية : مسيرة وضاءة في الزمن الصعب

في الكثير من الاحيان نخصص في كتاباتنا مواضيع عن المظاهر والظواهر السلبية الحاضرة او المتوقعة في محاولة للمساعدة في حلها او لتجنبها ، ولكثرة المواضيع وتزاحم عددها او تأثيرها على بلدنا وأبنائه الطيبين فإننا ننشغل عن عرض الجوانب المشرقة التي تولد وتنمو باضطراد هنا او هناك ، ولعل ابرز الصعوبات التي تقف في عرض تلك الحالات هو التردد في أن يعدها البعض بأنها نوعا من المجاملات او المحاباة ، لذا فان هناك من يعتقد إن ولوجها وعرضها يعرض كاتبها لدرجة من المخاطرة سيما وان بعض المتلقين لهم اهتمام بعرض السلبيات ، نقول هذه الكلمات ونحن نتابع أداء الجامعات التقنية الأربعة في بلدنا ( الوسطى ، الفرات الأوسط ، الجنوبية ، الشمالية ) ، فقد ولدت هذه الجامعات لتكريس واستثمار النجاحات التي حققها التعليم التقني الذي تأسس قبل عام 1969 وأصبحت لديه تجربة تتفوق على العديد من التجارب في الوطن العربي والمنطقة ، وتم تأسيس هذه الجامعات بعد نفاذ التعديل الثامن لقانون وزارة التعليم العالي رقم 40 لسنة 1988 الذي خول مجلس الوزراء صلاحية الموافقة على تأسيس الجامعات الحكومية بعد أن كانت هذه الصلاحية تخص السلطة التشريعية في البلاد ، وفي جلسته التاسعة عشر الاعتيادية المنعقدة بتاريخ 13 مايس 2014 وافق مجلس الوزراء على مقترح وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المتضمن استحداث الجامعات التقنية ، ورجحت التوقعات أن تستغرق فترة الإعداد لمباشرة هذه الجامعات أربعة سنوات , أما عن الكلف التخمينية والموارد المادية , فقد كان المفروض تخصيص 138 دونم في البصرة و500 دونم في النجف وكذلك الموصل فضلا عن تخصيص 25 مليار دينار لكل جامعة وغيرها من المتطلبات الكافية لانطلاق أربعة جامعات ،
ومنذ بداية تأسيس الجامعات (الفتية) ومباشرتها بقبول الطلبة في العام الدراسي 2014 / 2015 ولغاية العام الدراسي الحالي 2020 / 2021 تمر هذه الجامعات بمجموعة من الظروف التي كانت كافية لكي تكون مبررا لتوقفها وتعثرها في تحقيق أهدافها ورسالتها ، فقد شهد عام 2014 هجمات إرهابية طالت العديد من مدن العراق وجعلت ثلث مساحة البلد خارج السيطرة الاتحادية ، كما أوجدت مناطق ساخنة في ( الموصل ، الانبار،، الدور ،الحويجة) التي من المفروض أن تكون معظمها ضمن قاطع مسؤولية الجامعة التقنية الشمالية التي تأخرت مباشرتها ولحين اختيار موقع بديل لها في اربيل وتوزيع بعض نشاطاتها في دهوك ، وهو أمرا لم يكن يسيرا لأنه تطلب تقديم أكثر من الجهود الاعتيادية لضمان عدم إضاعة أعوام دراسية من الطلبة والحفاظ على سلامتهم وأرواحهم من الأخطار ، اخذين بنظر الاعتبار وجود أعداد كبيرة من التدريسيين والعاملين التقنيين في الموصل ممن تعذر عليهم مغادرة أماكنهم والالتحاق بالمقر البديل ، كما عاشت البلاد معارك التحرير ودخلت بحالة تقشف بسبب انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية وتناقص تخصيصات الوزارات عموما ومنها التعليم العالي ، كما بدأت الاحتجاجات والمظاهرات في بداية تشرين الأول 2019 التي أثرت على الدراسة الجامعية في العديد من مناطق البلد ، وبعدها ظهرت جائحة كورونا التي عطلت الحياة كلا او جزءا إسوة ببقية البلدان ، ومثل هذه الظروف من الممكن أن تحدث حالات لا تحسد عقباها في الجامعات العريقة فكيف الحال مع جامعات فتية لم تتوفر لها الإمكانيات والموارد بالحد الأدنى المطلوب ، وبدلا ان تكون تلك الظروف مانعة ومبررا للفشل ( لاسمح الله ) فان القيادات الجامعية والكوادر العاملة بمختلف الاختصاصات والعناوين عقدت العزم على المضي قدما لتحقيق ما هو اقرب للمستحيل ، فاستخدمت الكفاءة في تقليل الهدر والتخطيط العلمي في توزيع الإمكانيات وتعويض النقص في الموارد من خلال تفعيل الفعاليات الإنتاجية والتي تتم من خلال خدمة البيئات المحيطة ، وتمت الاستفادة من نتائج التجربة التي عاشتها هيئة التعليم التقني باعتبار إن الكليات والمعاهد التقنية في الجامعات المستحدثة هي من أبنائها وبناتها ، وكل ما تم انجازه من لحظة الشروع وحتى اليوم تم دون تحميل الموازنات الاتحادية والمحلية أية أعباء مالية أضافية كما إن كل ما أنجز لم تؤشر فيه حالات من الهدر بالموارد او في الفساد الإداري والمالي او في تجاوز حدود الوظيفة او الاستخدام غير المنضبط للصلاحيات .
ولعل واحدة من بين الانجازات العديدة المتحققة لهذه الجامعات رغم ما مرت به من ظروف إنها استطاعت تشغيل المعاهد والكليات التقنية كافة مما اضطر لنقل بعضها من مناطق ساخنة إلى مواقع بديلة كما تم استحدث كليات ومعاهد في مواقع وتخصصات مميزة ، فضلا عن التوسع باستحداث العديد من الأقسام والفروع في الدراسات الأولية والعليا بتخصصات دقيقة بعضها تدخل للمرة الأولى في البلاد ، وتم أيضا استحداث الدراسات المسائية في العديد من الأقسام لتوسيع الطاقات الاستيعابية او لتلبية الطلب او تعويض مناطق عديدة من هذا النمط من التعليم اعتمادا على ما يتم إضافته من الموارد دون تكليف الموازنة بأية أعباء ، ويتعذر ذكر جميع تفاصيل الحالات الايجابية التي يمكن أن تجير لصالح هذه الجامعات لأننا نتحدث عنها بالمجمل في حين إن لكل منها صفحات مشرفة في المبادرات والإبداع وولوج كل ما يثلج صدور العراقيين من عقد المؤتمرات العلمية العالمية بالمشاركة الافتراضية او الحضوري او الدمج بين النمطين وحصول منتسبيها على براءات الاختراع وانجاز متطلبات البحث العلمي والنشر في المستوعبات خارج العراق او في مجال خدمة المجتمع والترقيات العلمية والتعليم المستمر او غيرها من الفعاليات والمبادرات وبعضها لم تتم مباشرتها من قبل وتعد إضافة لما موجود في البلاد ، ومن دواعي الفخر والاعتزاز إن تثبت هذه الجامعات علو كعبها من خلال حصولها على ترتيب متقدم عند تقويم أدائها من خلال التنافس مع الجامعات المحلية التي تأسست بعضها منذ عقود او من خلال دخولها في التصنيف العالمي للجامعات ، فمجرد دخولها التصنيف له دلالة علمية على صحة سفرها وبشكل يثبت إن هيئة التعليم التقني كانت المدرسة او البيت الكبير التي أنجبت او صنعت القيادات التي تدير الفعاليات بروحية الفريق وفي أداء الأعمال تحت ضغوط الازمات ومختلف الظروف مضافا إليه كل ما هو ايجابيا بما يجعله يستحق الثناء ، ومن باب الواجب الوطني والمهني والعرفان الإشادة بالجهود التي بذلت للانتقال إلى وضع الجامعات التقنية بهذا الزمن الصعب الذي تم فيه تخريج أفواج من الطلبة لزجهم بأسواق العمل وهم يتمتعون بمستوى المهارة التقنية على وفق القياسات التي وضعت بهذا الخصوص ، فالتعليم التقني يستقطب أكثر من 35% من مجموع مدخلات التعليم الجامعي الحكومي في الدراسات الأولية كما إن الكليات التقنية تتضمن الدراسات العليا في الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه ، وبذلك اخذ حلم المخلصين في التحول إلى الجامعات التقنية يتحقق ليكون التعليم التقني أكثر معاصرة وارتباطا مع التقانات العالمية ، وخلال الأعوام التي مضت ( رغم صعوبتها ) فان العطاء لم ينقطع ، إذ يتم تطويع متطلبات التعليم التقني الذي يعتمد بشكل أساسي على الممارسة والتطبيق بما يلاءم الظرف الوبائي الحالي من خلال التعليم المدمج وتوزيع الطلبة بمجاميع صغيرة ( تطبيقا لإجراءات الوقاية ) لاكتساب المهارة التقنية المطلوبة مع توفير التعليم الالكتروني بما يتوافق وإمكانيات الطلبة في كل إنحاء البلاد ، ويمكن الجزم بان فكرة الجامعات التقنية تحولت إلى مشروع وطني يمكن أن يتكامل أكثر بتغير الظروف التي رافقت البدايات ، ومن يشكك بهذا المشروع عليه أن يتابع أداء تلك الجامعات والنقد حق مشروع عندما يكون بشكل موضوعي وعلني للتصحيح ، ، ومن يعملون بإخلاص في هذه الجامعات لا ينتظرون المدح بل مرضاة الله والشعب ، ومن خلال ما تحقق يمكن القول بثقة إن الجامعات التقنية تسير بالاتجاه الصحيح بما يثلج الصدور ، وأدائها لم يتوقف يوما بل انه يتصاعد لتحقيق أكثر من الموجود لبلوغ الطموح الذي يليق بمكانة شعبنا المجيد .