23 ديسمبر، 2024 10:38 ص

الثورة العراقية وظلم ذوي القربى

الثورة العراقية وظلم ذوي القربى

ان تتصدى سلطة الاحتلال وميليشياتها المسلحة واتباعها للثورة العراقية، وتحاول القضاء عليها بكل ما لديها من قوة، فهذا امر يمكن استيعابه. فانتصار الثورة يعني، انتقال هؤلاء الاشرار من المنطقة الخضراء الى قفص الاتهام لمحاكمتهم على الجرائم التي ارتكبوها والاموال التي سرقوها، والارض التي استولوا عليها والسلطة التي اغتصبوها، وخاصة جريمة خيانة الوطن، التي تعتبر حسب الشرائع السماوية والوضعية، وبالنسبة لشعوب الارض كافة، جريمة عظمى عقوبتها الاعدام. لكن ان يقدم وطنيون معادون للعملية السياسية، او هكذا يفترض، خدمة مجانية لهؤلاء الاشرار، فهذا لا يمكن استيعابه او قبوله، بل يستحق الادانة والمحاسبة، بصرف النظر عن النوايا الحسنة، او قلة الخبرة او الوعي السياسي. حيث تصاعدت في الاونة الاخيرة موجة التشكيك بالثورة، والتقليل من تاثيرها، والحط من قيمتها واهميتها والاستهانة بقدرتها على تحقيق الانتصار، لينتهوا الى اصدار حكم بفشل الثورة.
والمصيبة، ان المبررات التي استندوا اليها مبررات واهية جدا. حيث فسروا اخلاء ساحات التحرير من الثوار، والاحتفاظ باعداد او مجاميع صغيرة، حرصا على حياة العراقيين من انتشار فيروس كورونا القاتل، والذي ادى بالضرورة الى تراجع نشاطات الثورة، وفعالياتها، فسروه على انه هزيمة. والانكى من ذلك ووفق المثل الشائع “جا يكحلها عماها”، قدموا ادلة لتبرير الهزيمة، ونسبوها الى فارق القوة بين سلطة تمتلك الة عسكرية لا تقهر حسب تعبيرهم، وبين شباب سلميين ليس بيدهم غير العلم العراقي وشعار نريد وطن. في حين نسي هؤلاء البؤساء، بان هذه القوة التي لا تقهر فشلت طيلة هذه الشهور في هزيمة هذا العلم العراقي الذي ظل مرفوعا وذاك الشعار المدوي “نريد وطن” الذي لا يزال يقلقهم نهارا ويقض مضاجعهم ليلا . بل فشلت هذه القوة التي لا تقهر، في الالتفاف على الثورة، او خداعها باجراءات ترقيعية. والاكثر من ذلك، فان هؤلاء الشباب السلميين وضعوا هذه القوة في مازق لا تزال تعاني منه، وبالتالي اثبتوا ان القوة الاكبر التي لا تقهر في التاريخ هي قوة الشعوب.
ولكي لا نبتعد عن اصل الموضوع، فان ذوي القربى قد وجهوا، خاصة في الاونة الاخيرة، حزمة من الانتقادات السياسية للثورة، والتي استندت الى مبادئ ونظريات ثورية، اخذت للاسف الشديد، طريقها الى عقول بسطاء الناس، كونها صحيحة ومشروعة من جهة، وتدغدغ عواطف الناس وحماسهم وتطلعهم للانتصار باسرع وقت من جهة اخرى. وكان من بين اهم هذه الانتقادات، او كما سماها بعضهم بالعيوب، توصيف الثورة بانها مجرد انتفاضة عفوية لم ترتق بعد الى مصاف الثورة. وانها تفتقر الى فكر سياسي وايديولوجي واضح، وان شعاراتها عمومية ومطالبها مرتبكة. وانها لم تنجح في اشراك الاحزاب والقوى الوطنية، وانها لا تتوفر على قيادات وطنية معروفة او رموز سياسية بارزة قادرة

على تشكيل محور لاستقطاب اوسع للجماهير. ولم ينس هؤلاء “الاخيار” فشل الثورة في الحصول على دعم،عربي او اقليمي او دولي، سواء كان دعما ماديا او لوجستيا او اعلاميا. بل لم تحظ الثورة حتى بحماية دولية ضد بطش السلطة، على الرغم من استشهاد المئات وجرح الالوف.
هذه العناوين او المباديء الثورية، على الرغم من مشروعيتها واهميتها وحاجة كل ثورة الى تامينها، فانها لا ترتقي الى مرتبة القوانين والاحكام الملزمة. ومع ذلك فالثوار لم يهملوا ابدا هذه المباديء الثورية، بل هم خلقوا مقوماتها مع كل يوم يمر على الثورة. بمعنى اخر فالثورة ليست ساذجة او مهملة لهذه المبادئ، وانما هي مدركة لاهميتها ونجحت في خلق ارضية مناسبة لتقبلها والاسترشاد بها الى حد كبير. ومع ذلك، وعلى افتراض ان الثورة تعاني من هذا النقص، فان هذا لا يعيبها ولا يعيب الثورات عموما. فعلى سبيل المثال لا الحصر فان الثورة الفرنسية، التي تعتبر اعظم ثورة في التاريخ، كانت بدايتها عفوية، او شبيه بالثورة العراقية. حيث اندلعت في العاصمة باريس جراء الاستياء العام الذي تولد عند اهالي العاصمة، بسبب تردي الاوضاع المعاشية وسنوات طويلة من القحط بسبب حجم ديون الحكومةالهائل الذي كان نتيجة لحرب السنوات السبعة ومشاركتها في حرب الاستقلال الامريكية، وفشلها بالمقابل في استعادة وضعها المالي، الى درجة اصبح فيها الحصول على رغيف الخبز غاية لا تدرك. ولما سألت الملكة ماري اطوانيت عن سبب الثورة قالو لها قلة الخبز فاطلقت كلمتها المشهوره ” لماذا لا ياكلون كاتو”. وكما انضم الى الثورة الفرنسية لاحقا عدد من القادة والمفكرين والثوريين الذين لم تكن لديهم شهرة الا في نطاق ضيق جدا، فان الكثير من القادة والمفكرين والمثقفين والاكاديمين قد التحقوا بالثورة تحت مظلة النقابات مثل نقابة المحامين والاطباء والمهندسين والمعملين وكذلك طلبة الجامعات والدراسات العليا وقادة احزاب وطنية وخبرات سياسية عالية. واذا كان ظرف الثورة العراقية لا يسمح بالاعلان عن هذه القيادات، فان الانسان نصف العاقل يستطيع ادراك هذه الحقيقة. والا كيف نفسر نجاحات الثوار وصمودهم في مواجهة عدوهم وتامين اتصالاتهم وتزويد الثوار بالدواء والغذاء والكهرباء وتنظيم المرور وضبط امن الثورة وتوحيد الخطاب السياسي والاعلامي الخ؟ ومن الطريف ان اعداء الثورة، وجراء دهشتهم من كل ذلك، نسبوا هذه الانجازات الى دول اجنبية وسموا بعضها مثل امريكا والسعودية او الكيان الصهيوني.
اما بقية المباديء التي تم تاشيرها، فالثورة على سبيل المثال اختزلت كل الافكار السياسية والعقائد بشعار نازل اخذ حقي وشعار نريد وطن واسقاط العملية السياسية برمتها. وشكلت هذه الشعارات الاساس الذي بني عليه فكرالثورة ومنهجها السياسي، والتي ترجمت في المطالب العشرين التي تعد بمثابة خارطة طريق لاسقاط العملية السياسية برمتها، عبر اسقاط الحكومة وحل البرلمان واجراء انتخابات مبكرة برعاية اممية من جهة ، ووضعت قواعد بناء دولة مدنية قوية تسودها العدالة ويرعاها القانون ويحميها دستور جديد من جهة اخرى. الامر الذي اجبر جميع الاحزاب والقوى الوطنية الالتحاق بالثورة تحت خيمة شعارات الثورة وفكرها السياسي، وليس تحت شعاراتها وافكارها وايديولوجياتها. والذي حاول ركوب الثورة وتوظيفها لصالح اجنداته الحزبية او الفكرية مثل مقتدى الصدر وتياره والحزب الشيوعي وبقاياه، لم يفشل فحسب، وانما عزل تماما. اما الدعم السياسي والاعلامي، سواء من قبل الدول او الراي العام، فان الثورة بصمودها الاسطوري وباصرار ابنائها على مواصلتها حتى النهاية، اجبرت العالم على احترامها وتغطية نشاطاتها الى هذه الدرجة او تلك، مثلما اضطر العديد من الدول والامم المتحدة، الى اصدار بيانات خجولة تدين السلطة الحاكمة في العراق. وقد علمتنا تجارب الشعوب، بان الثورة كلما اقتربت من تحقيق الانتصار مالت الدول باتجاهها، ليس من اجل سواد عيونها، وانما من اجل مصالحها. هكذا تخلت امريكا والغرب عن عملائها مثل شاه ايران وحسني مبارك وعلي زين العابدين.
اليوم، وبعد مرور اكثر من ستة شهور على اندلاع الثورة، فانها بالاضافة الى تحقيق بعض النجاحات فانها تمكنت من استيعاب كل هذه العناوين والمباديء الثورية، وهي الان تسير بخطى ثابتة وتعد نفسها لليوم الموعود في الوقت المناسب. في حين تعاني السلطة من تصدع داخلها وتخبط في سلوكها وقراراتها. بحيث اصبح المتغطرسون في السلطة يستجدون المساعدة من القريب والبعيد. بل اصبحت تستجدي الثوار انفسهم من اجل القبول بانصاف الحلول. ويدخل ضمن هذا السياق لجوء مصطفى الكاظمي الى القيام باكبر عملية خداع وتضليل لتسويق نفسه كنصير للثوار وانه لن يهدا له بال قبل تلبية مطالبهم ومحاسبة القتلة!!!! على امل الالتفاف على الثورة والخلاص من شبحها الذي اخذ يقلقهم نهارا ويقض مضاجعهم ليلا.
هذه النتيجة تكاد تكون حتمية، حين يدور الصراع بين شعب يسعى لتحقيق مطالب مشروعة، وسلطة احتلال عاثت في ارض العراق دمارا وفسادا، وخرقت كل القوانين والشرائع السماوية والوضعية. وما دامت المسالة هي مسالة صراع بين الحق والباطل، فشروط النصر والهزيمة فيها لا تقررها موازين القوى لكل طرف فحسب، وانما تتحكم بها اكثر شروط الثورة الشعبية، التي من خصائصها المميزة قدرة الثورة على استنزاف طويل الامد وامكاناتها بتوسيع اطارها الجغرافي وسرعة نشر افكارها في صفوف الجماهير، ونفسها الطويل في مواصلة الثورة حتى نهايتها مهما طال الزمن وزاد حجم التضحيات. على العكس تماما من عدوها. حيث تتقلص قوات السلطة، بل تضمحل اذا ما دخلت وسط ملايين الناس، الى درجة تفقد عناصر قوتها وفاعلية أسلحتها، بل ويختل لديها ميزان السيطرة والقيادة المركزية، وتتعطل اندفاعات افرادها وعزمهم وحميتهم في قتال الثوار ابناء جلدتهم، الذين يقابلون القوة بصدور عارية. فهؤلاء وان كانوا جزءا من السلطة لكن قاعدتهم تبقى وطنية ولا يتحملون مزيد من الظلم. ولا نستبعد في هذا الخصوص انضمام قطعات منهم الى الثورة.
صحيح ان الصراع بين الثورة والسلطة الحاكمة لم ينته بعد، وان السلطة لم تفكر في الهزيمة في الظرف الراهن، وانما باتجاه التصعيد والغطرسة والعودة الى استخدام القوة العسكرية، لكن وقائع الثورة اكدت بان الدماء كلما سالت اكثر

اتسعت قاعدة الثورة جغرافيا وبشريا وعلى هذا الاساس لن يكون يوم الانتصار ببعيد ، فالشعب الثائر وبعد ان كسر حاجز الخوف لن يتوقف عند حدود التظاهر في ساحات التحرير وتلقي الضربات الموجعة وانما سينتقل الى تصعيد نشاطات الثوار وباساليب جديدة قد تفاجئ الجميع. وقد يكون من بينها اعتبار بعض المحافظات محررة وتدار من قبل لجان ثورية. كما حدث واعتبرت محافظة الناصرية محافظة محررة. خاصة وان الثوار لم تعد يعوزهم مثل هذه الخبرات سواء في التنظيم او الادارة. ولكي لا نطيل اكثر في هذا المجال، فان انتصار الثورة ليس ببعيد، وان غدا لناظره لقريب.