18 ديسمبر، 2024 8:10 م

الثورة العراقية ترفض مصطفى الكاظمي

الثورة العراقية ترفض مصطفى الكاظمي

من يعتقد ان الثورة العراقية قد انتهت، او فقدت تاثيرها، لمجرد تجاهل المليشيات المسلحة لشروط الثوار، حين اتفقت على تسمية مصطفى الكاظمي رئيسا للحكومة القادمة، لهو في ضلال مبين. حيث جاء الرد سريعا من جميع ساحات التحرير. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فان ثوار النجف اصدروا بيانا قالوا فيه “إنه وبعد كل التضحيات الجسام التي قدمتها ثورة تشرين المباركة منذ أكثر من ستة أشهر ووفاء لدماء الشهداء، فقد قرروا رفض هذا التكليف لانه جاء بإرادة خارجية ولم يأت بإرادة وطنية عراقية، فضلا عن أنه غير مطابق للشروط التي وضعتها ساحات الاعتصام” واعلن البيان ايضا”رفض الثوار للعملية السياسية التي تقودها الأحزاب الفاسدة جملة وتفصيلا”. ليس هذا فحسب، وانما طالب البيان الجماهير الوطنية كافة في داخل العراق وخارجه، “بالضغط بكافة الوسائل الممكنة باتجاه حل البرلمان وتشكيل حكومة إنقاذ وطني مؤقتة”. في حين خرجت جموع من الشباب الى الشوارع، على الرغم من حظر التجوال، للتنديد بالكاظمي والاحزاب الفاسدة. اما نشطاء الثورة فقد غردوا على مواقع التواصل الاجتماعي، التي ورد في احداها، “كيف سيستطيع رئيس الوزراء القادم حصر السلاح بيد الدولة وهو كلف بالمنصب بناءً على ثقة الجناح السياسي للعديد من الفصائل المسلحة”؟
بيان ثوار النجف اصاب كبد الحقيقة. فكل المعلومات المنشورة وغير المنشورة، اكدت على ان تكليف مصطفى الكاظمي، لم يات جراء الاتفاق الذي حدث بين الكتل السياسية والمليشيات المسلحة فحسب، وانما اتى جراء صفقة تمت بين المحتل الامريكي ووصيفه الايراني، اللذين لم يخفيا ترحيبهما وتاييدهما لهذا الرجل. والا بماذا نفسر هذا القبول المفاجيء لمصطفى الكاظمي والترحيب به وحضور مراسم تكليفه واعتبار ذلك انتصارا مبينا، وهم انفسهم الذين رفضوا ترشيحه لهذا المنصب قبل محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي؟. ثم اليس هم من وجه له اتهامات من العيار الثقيل، ووصفوه بانه عميل للمخابرات الامريكية، وانه اشترك في عملية اغتيال قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، وابو مهدي المهندس من قبل القوات الأميركية؟ وانه خطط لانقلاب عسكري بالاتفاق مع إحدى الرئاسات العراقية الثلاث، في إشارة إلى رئيس الجمهورية برهم صالح”.؟ ثم هل كانت مصادفة سيئة اتفاق هؤلاء الاشرار على الكاظمي في اعقاب الزيارات التي قام بها للعراق علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الايراني ولقائه بالكاظمي، ثم تبعه خليفة قاسم سليماني قائد فيلق القدس المدعو اسماعيل قااني؟. اما خطاب مصطفى الكاظمي وما تضمنه من كلمات رنانة حول السيادة والاستقلال وحب

الوطن وحرص الطيف العراقي والوجوه الكريمة على تلبية مطالب المتظاهرين وحصر السلاح بيد الدولة، ليس سوى محاولة بائسة لابعاد تهمة التدخل الايراني السافر والمفضوح من جهة، وذر الرماد في عيون الثوار على امل اقناعهم بالقادم الجديد من جهة اخرى. فالكاظمي الذي يشغل منصب رئيس المخابرات، يعلم اكثر من غيره بان هذه “الوجوه الكريمة”، هي ذاتها التي ثار الشعب العراقي ضدها، وقدم مئات الشهداء والاف الجرحى من اجل اسقاطها وتقديمها للمحاكم العادلة.
حين وصف العراقيون نوري المالكي وحكومته ونوابه في ساحة التحرير قبل تسع سنينا باهزوجة شعبية تقول “المالكي ونوابه .. حرامية وكذابة”، لم يجانبوا الحقيقة. مثلما لم يجانبوها حين وصفوا الحكومات اللاحقة باهزوجة”باسم الدين باكونا الحرامية”. وبالتالي فان الحديث عن مناقب الكاظمي واستقلاليته ووطنيته لم يعد يجدي نفعا، فلقد اثبتت الوقائع والاحداث بان رئيس الحكومة ومهما كانت مواصفاته، لن يتمكن من تحقيق انجاز واحد لصالح العراقيين، في ظل عملية سياسية، لحمتها المحاصصة الطائفية واحزاب فاسدة ومليشيات مسلحة، وسداها دستور ملغوم لا يمكن تعديله، وقضاء مسيس ومحاكم لتبرئة المجرمين. اما الذين يعيشون اوهام التغيير على يد هؤلاء الاشرار او اسيادهم من امريكيين وايرانيين ويجدون في الثورة الشعبية السلمية جهدا غير مثمر وتضحيات ضائعة، فساتركهم يعيشون مع اوهامهم. فلقد اكدت الوقائع والاحداث فشل جميع المحاولات التي سعت لاصلاح او تغيير او تعديل مسار العملية السياسية من داخلها. وهذا ليس بالامر الغريب على الاطلاق. فلقد درجت جميع الدول المحتلة وفي كل العصور والازمان على اعتماد هذه الطرق والوسائل الخبيثة وتنصيب حكومات عميلة تؤمن للمحتل سبل الهيمنة لعقود طويلة. بل يلجا المحتل كما حصل في العراق الى ربط هذه الحكومات باتفاقيات استعمارية عديدة، تجعل من البلد المحتل مستعمرة تابعة له بامتياز. بعبارة اخرى اكثر وضوحا فان حكومة الغد ستكون نسخة طبق الاصل لحكومة الامس، اذا لم تكن اكثر سوءا.
اذن ليس هناك من بديل سوى مواصلة الثورة الشعبية واسقاط العملية السياسية برمتها. وحين نقول ذلك فاننا ننطلق من شعور وطني مجرد، واحساس عميق بالتفاؤل. هذا الشعور الوطني تسنده تضحيات سنين طويلة، دفع فيها هذا الشعب العظيم من اجل حريته ثمنا لم يدفعه أي شعب على وجه الأرض، والمقارنات الحسابية تشهد بذلك، اما التفاؤل فتسنده كل تجارب التاريخ التي تقول، ان الغزاة وحكوماتهم العميلة لا ينتصرون، وان جرائم هؤلاء الاشرار تنقلب عليهم اجلا او عاجلا. او كما يقول المثل العراقي الدارج ” اللي ياكله العنز يطلعه الدباغ”. وانطلاقا من هذه الرؤية التي لا تحتاج الكثير من الجدل، فان هذه الثورة العظيمة ستنتصر وإذا تراجعتَ خطوة،

فانها تستطيع اجبار اعدائها على التراجع خطوتين او ثلاثة. لقد أثبت الشعب العراقي العظيم، بالتضحيات الجسيمة التي قدمها على مذبح الحرية، انه شعب حر لا ينام على ضيم ولا يموت له ثار ولا يهاب الموت وكرامته لا تهان ولا تذل والموت دونها ارحم. وبعكسه فالتفاوض مع هؤلاء الاشرار جريمة لا تغتفر، فهم الذين قادوا فرق الموت، ونهبوا المليارات وشكلوا عصابات وحولوها الى أحزاب تشتري ضمائر الرعاع، وتواطئوا على مستقبل ومصير بلادهم مع طهران وواشنطن، ومزقوا البنية الاجتماعية على أسس طائفية، لكي يتخذوا منها مطية لنفوذهم، ووقفوا وراء كل الأعمال الوحشية للاحتلال، وهم الذين تسببوا بقتل أكثر من مليون ضحية وتهجير خمسة ملايين آخرين، وتجويع ثمانية ملايين. هؤلاء قتلة مفرغون من الانسانية والوطنية تماما، ولا يمكن التفاوض معهم، او المراهنة عليهم.
ثم التفاوض مع هؤلاء الاشرار على ماذا؟ على شهداء الثورة الذين إفتدوا حرية وطنهم؟ التفاوض على كل الخراب الذي ساقوه لبلد لم يعتبروه أصلا وطنا لهم إلا من اجل ان يخونوه ويدمروه ويعيثوا بمقدراته فسادا؟ التفاوض على القبور التي لم تعد تتسع جثثا؟ ثم ما الذي سيعطونه للثوار؟ حصة طائفية بين حصص اقتسموها قبلهم. ولكي لا نطيل اكثر نحن هنا أمام عراقين إثنين، مختلفين كليا وجذريا. الأول، الذي يريده الثوار عراق سيد حر يعود مجتمعه ليبني نفسه على أسس وطنية جامعة، أحزابه وطنية، وقيادته وطنية، وكل شيء فيه عراقي الهوى والهوية. والثاني عراق العملاء، عراق مغلول اليدين، ممزق على أسس طائفية وعرقية. ترى من هو ذلك البهلوان الذي يستطيع أن يجمع بين الإثنين او “يُصالح” بينهما؟ ووفقا لأي فلسفة؟ وما هي الرؤية النظرية لهذه الخلطة الجهنمية؟
لن نجيب على هذه الاسئلة، ولكن نؤكد على انه لا توجد منطقة وسطى بين الوطنية والعمالة، ولا تستقيم بينهما اية مفاوضات، وسواء طال الوقت أم قصر، فان ثورة شعبية كالتي قام بها العراقيون لن تموت. شيء من الشعور الوطني المجرد هو الذي يقترح هذه الثقة، وشيء من تفاؤل التاريخ أيضا. ومثلها قيم السيادة والإستقلال والحرية. انها ليست مجرد قيم سياسية قابلة للجدل. انها مقومات أساسية للحياة. ولانها كذلك، فان المجتمعات تعود لتقاتل من اجلها وحتى لو خسرت مائة معركة. الإستعمار الفرنسي للجزائر دام 132 عاما. ولكنه هو الذي هُزم في النهاية. الامريكيون ارتكبوا من الجرائم الوحشية في فيتنام الكثير. ولكنهم هزموا أيضا. الإستعمار وثقافة النهب الإستعماري لم تعد مقبولة في عالم اليوم. وحتى ولو تمكنت الولايات المتحدة وايران من نهب العراق وتقاسمه كحصص، إلا انهما لن تقدرا على إقناع العراقيين بأنهم يجب أن يبقوا مستبعدين الى الأبد. السعي الى الحرية ليس ثقافة فقط. انه منطق الحياة. والغزاة يهزمون، وعملاؤهم يهزمون، ليس لأنهم يواجهون مقاتلين من جانب الطرف الآخر فقط، بل لأنهم يعملون ضد منطق الحياة. وتتم إزالتهم من الوجود بسهولة، ومن دون أن يتركوا أثرا. لهذا السبب بالذات، فكل الأسماء ‘المهمة’ التي نسمع بها اليوم، سنجدها في المزبلة غدا. ومحظوظ من يفلت بجلده من الملاحقة.