19 ديسمبر، 2024 1:15 ص

الثورة السورية والتركمان

الثورة السورية والتركمان

لاتتوفراحصائية رسمية حول عدد التركمان في سوريا، بعض المصادرتقدرعددهم مع المستعربين منهم بثلاثة ملايين ونصف المليون، ومصادر اخرى تقدر عددهم بمليون ونصف المليون. الحكمة ليست في الكم وانما الحكمة في النوع ،فكم من فئة قليلة العدد تمكنت بايمانها بقضيتها من تحقيق طموحاتها السياسية والقومية، وتغلبت بعقيدتها وإرادتها وعزمها على من هي اكبر منها عددا وعدة . والتركمان السوريون سواء كانوا  أكثرية اواقلية فقد تعرضوا ولايزالوا للتعتيم الممنهج ، ولمختلف صنوف الاضطهاد والاقصاء ،وحرموا من حقوقهم وارغموا على الانصهار في البوتقة السورية .

يتوزع التركمان السوريون بنسب عالية في المدن السورية الكبيرة كحمص وحماه وحلب ودمشق واللاذقية وفي حوض نهر العاصي، وفي قرى هذه المدن ،وفي بعض قرى هضبة الجولان التي استبسلوا في الدفاع عنها في حرب الايام الستة قبل احتلالها  من قبل ااسرائيل عام1967 ، ويسكنون الان في ضواحي دمشق .

لم يستقرالتركمان السورين اصحاب التاريخ المشرق في منطقة معينة ، ولم يجعلوها موطنا خاصا بهم لثقتهم بانفسهم ولتواضعهم وعلى اعتبارأنهم اصحاب الحق والارض، وكل شبرمن الارض السورية اعتبروها وطنا لهم. لقد كانت هذه الثقة بالنفس والتواضع التركي الاصيل للاسف في مقدمة عوامل استعراب قسم منهم وانصهارهم في المجتمع السوري، اما الان فحان زمن صحوتهم القومية وتخلصهم من ظلم النظام السوري الجائروسياساته العنصرية ضدهم ، ووجب عليهم النضال من اجل جعل مناطقهم موطنا تركمانيا، وان لا ينسوا ان من لا ارض له لا حياة له، وأن نيل المطالب والحقوق لايتحقق بالتمني وإنما بالنضال والتضحيات وبالاعتماد على النفس .

 هناك في سوريا عوائل تركمانية كعوائل الاتاسي والعظم والقباني والعطري والتركماني والعظمة والكواكبي  والجيجيكلي وغيرها فهي كثيرة ، ولكن البعض من هذه العوائل انكرت أصلها وإدعت بان اصولها عربية ،وآمنت بعروبة سوريا ، وانضمت للجمعيات والتنظيمات السياسية العربية التي كانت تعمل ضد الدولة العثمانية وتطالب بالاستقلال منها ، ولعبت دوار كبيرا في إنسلاخ سوريا من الدولة العثمانية ، وفي الحياة السياسية والعسكرية والاجتماعية السورية ، وقد يكون لها دورها ايضا في استعراب قسم من التركمان.

وتبوأ البعض من أبناء هذه العوائل مناصب رفيعة في الدولة السورية ، فقد كان يوسف العظمة  ضابطا في الجيش العثماني وتعين وزيرا للحربية في عهد حكم الملك فيصل لسوريا عام 1920، وخالد العظم الذي تولى رئاسة الحكومة لعدة مرات ورئاسة الجمهورية لفترة مؤقتة عام 1941، وكان والده وزيرا للشؤون الدينية في الدولة العثمانية ، والجنرال أديب الجيجيكلي الذي تزعم سوريا لنحو خمسة اعوام اثر إنقلاب عسكري قاده عام 1949، وتولى ثلاثة من الآتاسيين وهم هاشم الآتاسي ولؤي الآتاسي والدكتورنورالدين الآتاسي منصب رئيس الجمهورية السورية، والجنرال حسن توركماني وزيرالدفاع الاسبق مساعد نائب الرئيس السوري الذي قضي مع عدد من رموزالنظام السوري في حادث تفجير مبنى الامن القومي  السوري في دمشق قبل اشهر.

للتركمان السوريين الذين استوطنوا سوريا في اواخرالقرن السابع الميلادي وتوسع نفوذههم في بلاد الشام وامتد الى مصر في عهد الاتابكة والسلاجقة ، تاريخا حافلا بالبطولات والمآثر في الدفاع عن بلاد الشام وعن سوريا على وجه الخصوص في الحروب ضد الغزاة الصليبيين في العهدين الآتابكي والسلجوقي ، ودورا بارزا في بناء مؤسسات الدولة السورية في النواحي الاجتماعية والثقافية والعسكرية .

إن التركمان السوريون،اتراك أقحاح وهم جزء من شعوب العالم التركي الكبير في تركستان الشرقية وفي الجمهوريات التركية في تركستان الغربية (توركمنستان واوزبكستان وقيرغيزستان وقازاخستان) وفي جمهوريات آذربيحان وتركيا وقبرص الشمالية التركية ، وآذربيجان الجنوبية والعراق وروسيا الاتحادية والبلقان وآفغانستان وطاجيكستان ،فلا فرق اطلاقا بين التركمان والترك مثلما يخطأ البعض من الاخوة الكتاب السوريين الذين يعتبرون التركمان القاطنون في الحضر اتراكا والقاطنون منهم في القرى تركمانا .

فالتركمان هم اوائل القبائل التركية التي إعتنقت الدين الاسلامي بعد الفتوحات الاسلامية في تركستان . وأن القبائل التركية التي اشهرت اسلامها سميت ب ” ترك- إيمان ” اي الاتراك المؤمنون بالله ،وبمرور الزمن تحوراللفظ ” ترك – ايمان” الى لفظ ” تركمان “. وتجدرالاشارة هنا الى ان الاتراك السلاجقة والاتراك العثمانيون هم تركمان ايضا،وبتعبير آخر التركمان هم  جوهر الامة التركية.

لايجب على التركمان السوريين كما في قول الشاعرعلي ابن الوردي المتوفي عام 749 للهجري” لاتقل اصلي وفصلي أبدا – إنما اصل الفتى ما قد حصل ” ان يتغنوا أويفتخروا بماضيهم في سوريا ، لأن التغني بمآثر الاجداد والاعتزاز بالماضي وبالقادة الذين أنجبتهم قوميتهم التركمانية في سوريا، لا ينفعهم أبدا إذا كانوا هم غير مستلهمين العبر والدروس من تلك المآثر، وإذا كان واقعهم السياسي والاجتماعي والاعلامي الراهن ليس في مستوى تلك المآثر، او انه ليس حتى في مستوى الواقع السياسي والاجتماعي والاعلامي للمكونات السورية الاخرى .

وإذا كان الإعتزاز امرا لابد منه فعلى التركمان في سوريا أن يعتزوا بقوميتهم وبلغتهم التركمانية وبتاريخهم التركي المشرف ، وان يتخلصوا من عقدة انتحال البعض منهم صفة الانتساب لبعض القبائل العربية او لاهل بيت رسول الله وصحبه، وان يناضلوا من اجل الحياة الحرة والعدالة والمساواة لأنفسهم ولأبنائهم ولمستقبل ألاجيال التركمانية ، ومن أجل قومية تركمانية موحدة  في سوريا .

إن إنتحال صفة الانتساب لاهل بيت رسول الله وصحبه الكرام ظاهرة شائعة و مؤسفة منذ القدم بين الشعوب التركية اكثرمن غيرها، ولعل السبب  في ذلك قد يكون ناجما عن تمسك الاتراك بالاسلام وعن فرط حبهم بالرسول الاكرم وبآل بيته وصحبه الكرام، او ناجما عن غلو القبائل العربية في التعصب القومي واستنقاصها من غير العرب .

 إن الإنتساب لأهل البيت ظاهرة شائعة بين الاتراك الشيعة ،أما ظاهرة الانتساب للصحابة فهي شائعة بين الاتراك السنة ، وتصوروا أن انتحال صفة الانتساب للصحابة موجود حتى في جمهورية اوزبكستان، بينما توجد في العراق مثلا عوائل عربية تركية الاصول ، وعوائل كردية عربية الاصول فلا العوائل العربية التركية الاصول تعتبر نفسها تركية ، ولا العوائل الكردية العريبة الاصول تعتبر نفسها عربية.

التركمان السوريون مطالبون اليوم اكثر من أي وقت آخربالاعتماد على انفسهم والتمسك بالهوية القومية التركمانية وإعلاء شأنها ووضعها فوق أي اعتبار آخر، لأنهم يمرون اليوم في أصعب مراحل تاريخهم من زاوية الثورة الشعبية المندلعة منذ اكثرمن عام ونصف العام والتي سيتقرر في أعقابها المستقبل السياسي لسوريا ، ومن زاوية قبضة التهميش الرسمي للنظام البعثي ضد التركمان، ولعبته القذرة التي تهدف الى تأليب المكونات الاخرى عليهم ،ومحاولاتها الرامية الى تحييدهم في الثورة بشتى الوسائل والاغراءات السياسية .

ولقد آن الاوان للتركمان السوريين أن يحيوا ماضيهم المشرف في تاريخ سوريا القديم والحديث ودورهم الكبير في الدفاع عنها وتحريرها من المحتلين وفي بناء صرحها الاجتماعي والحضاري، كما وحان الوقت أن يتخلصوا من التشرذم الذي يعيشونه ومن التعتيم الاعلامي المفروض عليهم ، ومن مرض ضعف الشعور القومي الذي كان عاملا بارزا في انصهار بعضهم في بوتقة المجتمع السوري ، وفي تعرضهم للتهميش .

 إذا كان الدعاة الايرانيين قادرون على استغلال الوضع الراهن في سوريا لتشييع العشرات من القرى العلوية ، والدعاة الوهابيين السعوديين قادرون على إستغلاله لتسنين العشرات من قرى العلويين ، فلماذا يا ترى لا يقدر التركمان السوريون على استغلال هذا الوضع لإعادة تركمنة قراهم التركمانية المستعربة ، ومساعدة سكانها على تعلم لغتهم التركمانية المنسية وذلك عبردورات سريعة ووسائل اخرى للتعليم ، فاللغة وحدها هي الهوية وعماد القومية ومرآتها ، فمن يفقد لغته يفقد قوميته ويفقد صلته بماضيه وتاريخه .

إن الضرورة القومية تحتم على التركمان السوريين ، ان يحرروا أنفسهم من النسيان والتهميش وهضم الحقوق، ومن التعتيم الاعلامي الذي تعرضوا له في الماضي ويتعرضون له الان ، والكفاح قي ظل قيادة سياسية  تركمانية حكيمة حرة الارادة من اجل حقوقهم القومية والمشاركة الفعلية ماديا وعسكريا وسياسيا واعلاميا في الثورة السورية لكونها الفرصة التاريخية الاخيرة التي تساعدهم على نيل حقوقهم في حال تمكنوا من التقييم الامثل للثورة لصالحهم ، وان يقيموا أوثق العلاقات مع جميع فصائل المعارضة والمكونات السورية الاخرى وفق المصالح االمتبادلة، وان يثبتوا ثقلهم في ساحات القتال ، وأن يبرهنوا للجميع ان التركمان مكون أصيل ومهم له وزنه ومنزلته التي لاتقل عن منزلة المكونات السورية  الاخرى .

وعلى التركمان ان يسرعوا ويبرهنوا في ساحات القتال الجارية ضد نظام الاسد انهم شعب محارب وأصيل كما كانوا في الماضي ، لم ولن يرضخوا للاقصاء والعبودية، وان يتهيأوا سياسيا واجتماعيا للنظام السياسي القادم في سوريا الذي بحسب معظم المحللون السياسيون سوف لايبقى مركزيا كما هو الان، وإنما سيتحول ويصبح نظاما فدراليا تكون فيه الاولوية لمن هو أقوى وأصلح .

ان مشاركة التركمان بكتائب مسلحة في الثورة السورية في سبيل التحررمن العبودية ونيل الحقوق ، وخوضهم القتال ببسالة في صفوف الجيش السوري الحر ضد النظام السوري، تعتبر تطورا مهما للغاية يبشر بالخيربالنسبة لمستقبل التركمان في سوريا،غير أن اطلاق تسميات لأجندات خيالية على بعض الكتائب المسلحة التركمانية في الجيش السوري الحر لا يخدم اطلاقا التركمان وقضيتهم في سوريا بل يضرها اكثر مما ينفعها ، حتى ان تلك التسميات قد يفسرها أعداءهم بتبعية التركمان للغير، وعدم الولاء لسوريا وهو ما يدعوهم الى اقصى درجات الحيطة والحذرفي الامور الحساسة المتعلقة بمستقبل القضية التركمانية في سوريا.

الكفاح السياسي والاعلامي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي يجب له ان يكون الخيار العاجل الاول والاخير للتركمان السوريين في جميع مناطقهم ،وكفاحا مسلحا في صفوف الجيش السوري الحر من اجل نيل حقوقهم القومية المهضومة وضمان مستقبلهم ، والتمثيل القوي في برلمان سوريا وفي مؤسسات الدولة السورية لما بعد مرحلة نظام بشارالاسد، بشكل يقره ويضمنه الدستورالسوري القادم، وبشكل يليق بامجاد التركمان وتاريخهم المشرف في سوريا.