23 ديسمبر، 2024 6:59 ص

الثورة الديمقراطية والمجتمع المدني

الثورة الديمقراطية والمجتمع المدني

تهيمن المقولات المستمدة من توكيل هيمنة تامة على التفكير الامريكي المعاصر عن المجتمع المدني . ولربما يختلف المنظرون الفرادى بصدد انتماء العائلة , او ما اذا كان عصر التنوير قد استنفذ طاقته ,لكنهم يتفقون تقريبا على ان الديمقراطية السلمية انما تتطلب اتحادات طوعية ونشاطا محليا متزايدا .
للوهلة الاولى , يبدو ان لهذا الامر دلالة وجيهة , فالارتباط الاكبر والالتزام الاعمق والمشاركة المتعاضمة , والتضامن المتزايد , تبدو اجورا مرغوبة في أي تنظيم اجتماعي , لاسيما التنظيم الاجتماعي المبتلى بالسياسة الرخيصة والانحطاط المدني .
  لكن نظرة فاحصة قد تكتشف السبب الذي صارت فيه العقيدة التوكفليلية الجديدة جذابة في حقبة محافظة , والسبب الذي يبرر ابداء بعض التحفظات ازائها.
يمتاز الفكر المعاصر بنزعة شك كبير في الدولة , وشك فيما يقدمه العمل السياسي الواسع من ممكنات . والان فانه من المفترض بالمجتمع المدني ان يوحي دور الجماعات .وان يدرب المواطنين الناشطين , وأن يؤسس تقاليد الاحترام والتعاون , وان يوفر بديلا اخلاقيا من المصلحة الذاتية , وان يحد من البيروقراطيات الطفيلية , وأن ينشط الميدان العام , وكل ذلك في ظل حكومة صغيرة وسياسة محلية وسياسية محلية ,والحق ان هناك معنى ضيقا للهدف العام والمسؤولية السياسية يحتل الان مركز للحياة والفكر المعاصرين .
اما بالنسبة لكولن باول الذي ترأس مؤتمر القمة الرئاسية عن مستقبل امريكا , فأن ” مجتمعنا مدنيا هو مجتمع يحرض أعضاؤه على رعاية بعظهم بعضا , وعلى رفاة الجماعة كلها ” .
 فالتسامح والاحترام والسلوك , المتحضر يمكن ان تبنيها خدمات طوعية للجماعة , ذلك ” لاننا نساعد الجيل القادم من الامريكين على ان ينشئوا مواطنيين صالحين ونعرف الجيل الراهن , مرارا وتكرارا , بالحاجة الى تجاوز عوائق العرق والطبقة , والسياسة التي تفرقنا , الامر الذي يساعد في جعنا امة وحدة وحرصا “.فالمشاعر الطيبة , وحب العمل الطوعي , والحنين للماضي والجماعة التي تشكل المجتمع المدني في حقبة مناهضة للسياسة على الرغم من الحماسة الظاهرية , فان رواج افكار بعض الساسة العراقيين مرتبط بحس التشاؤم العام في حقبة محافظة ومزعزعة . اذ شهدت ثلاث عقود تظافر فقدان القدرة الصناعية والرجعية السياسية بشكل يعز نظيره , والازدراء الواسع النطاق للشخصيات الرسمية . وعلى الرغم من الازدهار حسب اقوالهم واثبات الامن والاستقرار في الظاهر . كان العراقيون في حالة ذهنية مريرة لا مدنية على نحو واضح . وأن  النخب المثقفة والسياسية تعمل بجد على تطوير الالتزامات المحلية والعادت الصالحة ولا ضير في ان الحياة تغدو افضل اذا ما اعمل اغلب الناس في مطابخ الحساء المجاني ,وتجنبوا فتناء السلاح بعد حوادث السلب على الطريق العام . لكن الرواسم الاخلاقية وتناقض مشاهدة التلفاز ليسا كافيين لتغيير ما تشهده الحياة المعاصرة من انحسار العناية بالمسائل المدنية , او اقناع المواطنيين اللا مبالين بانه يمكن ادارة شؤون العامة من نفاق وابتذال .
 لايقدم الينا الفكر الامريكي أي عون في مثل هذه الظروف , والمقولات المستمدة من الديمقراطية المباشرة التي عرفتها بلدات انكلترا الجديدة في بواكير القرن التاسع عشر لا يمكنها ان توفر نموذجا مقبولا للحياة العامة في مجتمع جماهيري , سلعي . متميز بمستويات من اللامساواة الاقتصادية لم يسبق لها مثيل . وعلى الرغم من اهمية النشاط الطوعي والمحلي والمعايير المدنية غير الرسمية فانها تبلغ من الضيق مبلغا لا يمكن لها معه ان توفر توجه واسعا وعاما مما يتطلبه المحيط الحالي بصورة ماسة . غير ان الفكر الامريكي مع ذلك يخدم لتحقيق اهداف مهمة , فمفهومة عن المجتمع المدني يسهم في تطبيع الامور اذ يجعل من الصعب رؤية الجذور الاقتصادية للمشكلات المعاصرة ويعمينا عن حلها بالوسائل السياسية , وعلى كل حال , فان ليس المفكر الوحيد المتاح . فالمجتمع المدني فكرة جدا قديمة , ومفهوم الفكر الامريكي عنه هو مجرد صيغة واحدة من بين صيغ عديدة . أن اتجاه فكر المجتمع المدني الحقيقي من خلال ما طرحه افلاطون وارسطو والفلاسفة الذين اكملوا مسيرة المجتمع المدني , والذين كنا فصلنا القول فيهم أي فهم ما قبل الحداثة الذي مؤداه ان المجتمع المدني هو المجتمع المنظم سياسيا , والنظرة الثانية الحديثة التي تراه ميدانا للضرورة . والانتاج , والطبقة والملكية , والمنافسة – اقول ان هذا الاتجاه يمكن ان يسلط ضوؤا ساطعا على فكرة تقدم الينا زادا اكثر مما تقدمه الينا المفاهيم الضيقة .
 يكمن جزء المشكلة في ان المجتمع المدني مفهوم ضبابي ومطاط على نحو لا مناص منه بحيث ان يوفر بسهولة قدر كبيرا من الدقة . اذ ليس كافيا وصفه لانه ميدان وسيط للاتحادات الطوعية المدعمة بمعايير الجماعة , ذلك لان العديد من المنظمات مدمرة للسلوك المدني , والعديد من المعايير المحلية اكلة للديمقراطية . لقد نظر الاوربيون الشرقيون , على نحو مفهوم الى نحو مفهوم الى المجتمع المدني بوصفه جمهوري ودستوري , لكن مبدا حكم القانون , الليبرالي المنشا شان المساواة التشكيلية , والحركات المدنية انما تتمتع بدعم شعبي كاسح في الولايات المتحدة لذلك فان صياغة المجتمع المدني مفهوما بحسب الرؤية البولندية . لا يمكنه ان يسلط الضوءعلى مشكلات الانظمة الاجتماعية الراسمالية المتقدمة وان المجتمع المدني اوسع كذلك , على نحو لافت ’ من الميدان العام الذي يقول به المفكر ( هابرماس) مادام من العسير تأسيس أي شيء على مثال نموذج الخطاب الحربين البشر المتساوين في الظروف المعاصرة .
وتجري الانشطة السياسية , حتى عندما توجهها دوافع الكسب الفردي الضيقة , في ميدان يتناول قضايا المجتمع الاوسع . اما الانشطة الاقتصادية فتظل حتى عندما تتشكل في ميادين دولية واسعة النطاق , اكثر ضيقا لانها تدور في الواقع حول الجري وراء المنفعة .
ويمكن العثور على المجتمع المدني في المناطق التي تسمو فيها الحركات الاجتماعية ذات الاتحادات الطوعية , ومجموعات المصالح , والتي تكافح دائما من أجل حفظ قدر من الاستقلال عن الشؤن العامة السياسية والاهتمامات الخاصة للأقتصاد . وفي الوقت نفسه , فأنها مرتهنه جزئيا بالدولة والسوق , ويخضع المجتمع المدني الى الاملاءات نفسها المتناقضة للأستقلال والارتهان للذين يميزان الميادين الوسيطة كلها.
ان الموقف الجوهري للسلطة الخاصة والديمقراطية يتناقض مباشرة مع الفرضيات الاساسية للنظرية الديمقراطية المعاصرة . يمكن لـ (المجتمع المدني ) , بحد ذاته ان يخدم الحرية أو ان يعزز اللامساواة . ولكنه لا يحمل في جوهرة ما يحفز على التعدد , المساواة , المشاركة , والكثير من ذلك يتوقف على طبيعة الضروف المحيطة ,  اما حظور او غياب السلطة المركزية القوية لموازنة تاثير التجمعات المحلية فهو في الاقل امر مهم اهمية طبيعة تلك  الهيئات نفسها . ” لحسن الطالع ليست السياسة الامريكية برمتها مبنية على نظام الدوائر الانتخابية الصغيرة . ان نظام الحزبية , الرئاسة , الحكومة الوطنية كلها , تمثل نزعات متعارضة , والسياسات التي تخدم قيم الحرية والمساواة هي الى درجة كبيرة جدا من انجازات هذه المؤسسات . ولا بد ان تستند القيم العامة عموما الى خلق دائرة انتخابية قومية ” .
يبرز نقد بعض المفكرين للتعددية مشكلة مركزية بالنسبة للعديد من النظريات المعاصرة عن المجتمع المدني : أي فشلها في ادراك ان ” الاستقلالية هي وسيلة لحفظ السلطة القائمة “.
بعد عشرين عاما من نشر كتاب ” السلطة الخاصة والديمقراطية الامريكية”
عزز البحث الرائد الذي قامت به ” جين مانزبريدج   Jane Mansbridge ” للاجتماع البلدي في ولاية نيوانجلاند والمساواتية في ورش العمل , عزز تحفظات السياسيين والمفكرين بصدد القابلية الديمقراطية للتنظيمات المحلية . فقد اكتشفت jane ان البنى التي تعمل فيها الناس وجها لوجه والتي نالت اعجاب الناس , وهي بالغة الاهمية للنظرية المعاصرة , لها مفعول حسن عندما كان هناك قدر من المصلحة العامة واوضح للجميع , لكن ذلك تحقق عى حساب التمثيل الديمقراطي وصنع القرار . اتسمت الديمقراطيات ” الوحدوية ” المحلية غالبا بقدر من المساواة الاقتصادية , وهذا يؤدي بها الى اتخاذ االقرارات بالاجتماع على قاعدة احترام وجهات النظر كلها , وتقليل اثار الخلاف والصراع . ومن جهة اخرى , تلتئم الانظمة “التنافسية ” حول الفرقة وتفترض ان الديمقراطيات تعمل في نطاق ادارة الاغراض المتنازعة بدلا من البحث عن المصالح العامة . واذا كانت الانظمة الوحدوية المحلية تتحرك من خلال افتراض صالح عام نحو اجماع عام , فان الانظمة التنافسية تتحرك من خلال الاقرار بالصراع الى حكم الاغلبية.